سمات العبادة... الديمومة

  • 158
أرشيفية

سمات العبادة... الديمومة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد..

فإن الله قد خلق العباد لعبوديته وحده لا شريك له، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وبيّن لهم سبحانه سبيل عبادته، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وأبرز لهم آفات الطريق وعوائقه، حتى يحذروا الانقطاع أو الالتفات، وهذا من آثار رحمته وجميل عفوه وظاهر معروفه ومنته، قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَاب السَّعِير}، وقال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي * هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}، فتعين على العبد الحصيف أن يلزم عتبة عبوديته بعد تمام منته، وألا ينقطع قبل نيل ثمرة عبادته، فإن أعظم الحرمان فساد الختام بعد الإحسان، ولا يحسن ختام العمر إلا بدوام التبتل والانقطاع لله على كل حال، حتى إذا باغته أخر نفس وعالج السكرات كان ملازمًا حال رضا من ربه، لا سخط ولا نقمة ولا غضب، فإن فساد الختام مضيع جهد البداية.


قال سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، ماتوا على سوء معتقد فما نفعهم سعيهم لسوء خاتمتهم بفساد معتقدهم، فنواقض الأعمال مذهبة للأجر، مضيعة العمر، محسرة الفؤاد، محبسة العذاب، فالزم تصل، واعمل تثمر، وقد خاب من قطع عن خدمة من بيده أمره.


الديمومة سمة العبادة:

-         سئلتْ عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كانت دِيمَةً"، رواه أحمد، ورواية الصحيحين: "عن علقمة قال: "سألت أم المؤمنين عائشة"، قال: "قلت: "يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئًا من الأيام؟" قالت: "لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستطيع؟"، الديمة: في الأصل المطر الدائم في سكون، قال أبو التمام:


"ديمة سمحة القياد سكوب... مستغيث بها الثرى المكروب

لو سعت بقعة لإعظام نصحي... لسعى نحوها المكان الجديب"

لذلك شبهت عائشة -رضي الله عنها- عمله وصلاته -صلى الله عليه وسلم- في المداومة عليهما مع الاقتصاد بديمة المطر، فمن كان متأسيًا، فخير هدي هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، ما كان لعابد أن يعمر وقتًا بعبادة ثم يغرق الدهر في الغفلات، وهذا الدوام على العمل لا يشترط فيه الكثرة ولا المشقة، لذلك بوب البخاري رحمه الله بقوله: "أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه"، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها امرأة، قال: "من هذه ؟" قالت:" فلانة"، تذكر من صلاتها، قال:" مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه".


فكلمة "مه" اسم فعل بمعنى اكفف، فليس الأمر بالكثرة إنما الأمر بما يقع في القلب مع الثبات، فهذه الديمومة طلب والتماس لمحاب الله، وبرهان على حب الله، فلا يطيق الدوام إلا ذو قلب محب، فحبه مذهب لمشقة عمله، وشوقه مذهب لنوم ليله، وتملقه ورجاؤه مذهب لجفاف حلقه وجوع بطنه عند صومه في يوم حره، ولا يذيق عبد لذة القرب باضطراب حاله وتساقطه على الصراط المستقيم، فإن طعم الإيمان له أسبابه، والحرام مفسد لمحل المذاق، مبدل للملاذ في القلب، فيصير العفن عسلًا، والعسل نتنًا، أما من جاهد نفسه في الله بديمومتها على طاعته ذاق وعلم، وكلما زاد ثباته كلما زادت لذته وأنسه، وإنما يتفاوت الناس بتفاوت ما في قلوبهم.


- من الديمومة بعد مواسم الطاعة: أن يكون له نصيب من عبادة هذه المواسم على قدر أقل منه في هذه المواسم، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي بثلاث: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ولا أنام إلا على وتر" رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر"، فهذه قد يستقلها خفيف اليوم وتكون مدعاة للترك غدًا، فخذ بالقليل وداوم عليه فهذا محبوب لله مقرب لك، قال صلى الله عليه وسلم: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، قال الحسن رحمه الله: "إن هذا الدين دين واصب، وإنه من لا يصبر عليه يدعه، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف"، وكان يقال: "ليأخذ أحدكم من العمل ما يطيق"، فإنه لا يدري ما قدر أجله، وإن العبد إذا ركب بنفسه العنف، وكلف نفسه مالا يطيق، أوشك أن يسيب ذلك كله، حتى لعله لا يقيم الفريضة، وإذا ركب بنفسه التيسير والتخفيف، وكلف نفسه ما تطيق كان أكيس"، أو قال: "كان أكثر العاملين، وأمنعها من هذا العدو"، وكان يقال: "شر السير الحقحقة" الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد.


- فاضرب لنفسك من قسم العابدين ولا تكن من الغافلين، قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل"، وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" رواه أبو داود وصححه الألباني.



 فكم من الليالي بتنا غافلين ثم عملت فينا سنن الله في الغافلين، فهذه صلات مستحبات نعم لكن قطعها حرمان وخسران، فإن فاتك شيء من عملك فأت به ولا تعود نفسك الترك، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الزِّيَادَةَ، وَيَكْرَهُونَ النُّقْصَانَ، وَإِلَّا فَشَيْئًا دِيمَةً، وَكَانَ إِذَا فَاتَهُمْ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ قَضَوْهُ بِالنَّهَارِ"، فكن في كل يوم وليلة لك عمل لا تتركه، ولو ركعتان في جوف الليل، والفرائض الخمس في جماعة المصلين، ونظرة في المصحف ولو قراءة صفحة، والتصدق ولو بجنيه، وصلة رحمك ولو بالهاتف، ولا تكن من الناقضين المعرضين، والحمد لله رب العالمين.