وإذا قلتم فاعدلوا

  • 135
أرشيفية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد,

إن من الأخلاق التي جاءت بها الشريعة, التحلي بالعدل والإنصاف, فهما من الركائز التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي, وهما علامة على سلامة الصدر، وطهارة القلب, قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ﴾, وقال: ﴿وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾, وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾, قال السعدي: «وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والفاجر والولي، والعدو, والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به، هو ما شرعه الله على لسان رسوله، من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل، ليحكم به».



وقال: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ...﴾, يقول ابن كثير: «يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين، يقول: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) .. أي : أدّوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال: ﴿ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ، أي: اشهد بالحق، وإذا سُئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله: ﴿أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد .. وقوله: ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا، أي: لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان..» اهـ.



وقال عليه الصلاة والسلام: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وُلّوا», قال ابن حزم: «أفضل نعم اللّه تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه، وعلى الحقّ وإيثاره», قال شيخ الإسلام: «العدل نظام كلّ شيء, فإذا أقيم أمر الدّنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق, ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة», قال ابن القيّم: «التّوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال».



إن من العدل أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة، قبل الحكم عليها، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على الأمور بمجرد الظنون والأوهام قبل التثبت التام منها، قال سبحانه: ﴿ولا تقف مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا﴾.



إن من العدل في النقد أن يكون بعلم لا بجهل, وأن يكون لله لا للهوى والظن, فاتباع الهوى يضل الإنسان عن سبيل الله، قال سبحانه: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾, قال شيخ الإسلام: «والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني -فضلاً عن الرافضي- قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق».



والأصل في دم المسلم وعرضه العصمة إلا ما استثناه الدليل, قال صلى الله عليه وسلم: «إن أربَى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه», قال ابن دقيق العيد: «أعراض الناس حفرة من حفر النار.».



إن من العدل الفرح بإصابة الغير للحق, والحزن على مجانبتهم له, قال ابن رجب: «وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته؛ فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث, أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه -أو معنى هذا- فقال أحمد: ما أعقله من رجل».


إن من العدل الشهادة للمحسن بإحسانه ولو كان عدوًا بغيضًا, وللمسيء بإساءته ولو كان حبيبًا قريبًا, وقد روى  مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت من أنت؟ فقال رجل من أهل مصر، فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم؟ فقال: ما نقمنا منه شيء، إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة ، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر


ـهو معاوية بن حُديج وكان قد قتل محمد بن أبي بكرـ أن أخبرك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به».



يقول النووي: «وفيه أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها».



قال شيخ الإسلام: «وصاحب الهوى يعميه الهوى فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه ويهواه, ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه ويكون منه شبهه دين؛ أن الذي يرضى له ويغضب له وأنه الحق وأنه الدين، وإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن مقصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه أو طائفته أو الرياء؛ ليعظم هو ويثني عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، .. وقد قيل: «احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه».