رحلة عطاء عمرها 1044عام الأزهر الشريف حارب التشيّع.. ووقف حائط صد منيع ضد الاحتلال عبر تاريخه واجه الاحتلال الفرنسي والإنجليزي والصهيوني بشراسة.. وتحطمت على أعتابه أحلام التتار
أغلقه صلاح الدين الأيوبي.. وأعيد افتتاحه لتدريس المذهب السني مصادر: عمليات الترميم تتم وفق أحدث التكنولوجيا العالمية.. وتطبيق شامل لمنظومة الحرم المكي الشريف عبد المنعم: نطالب بتفعيل دور الأزهر كسابق عهده.. وتفعيل دور هيئة كبار العلماء
يعود إنشاء الجامع الأزهر إلى أكثر من ألف ونيف وأربعين عامًا مضت، حيث وضع حجر الأساس جوهر الصقلي بتكليف من الملقب بـ "المعز لدين الله الفاطمي" 359 هجرية الموافق 970ميلادية، على مساحة 85م طول في عرض69م، استغرق البناء زهاء عامين، وأقيمت أول صلاة جمعة في المسجد الجامع يوم 7 من رمضان عام 361هجرية الموافق 22 يونيو 972ميلادية.
كان الهدف من إنشاء الجامع الأزهر نشر المذهب الشيعي، فقد عين الملقب بـ"المعز لدين الله" إمام الإسماعيلية الرابع القاضي النعمان بن محمد القاضي مسئولًا عن تدريس المذهب الإسماعيلي، وكانت بعض الفصول تدرس في قصر الخليفة، وكذلك في الأزهر، مع دورات منفصلة للنساء، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فأغلق المسجد فترة من الزمن ثم أعاد افتتاحه مرة ثانية ليدرس لطلابه مذهب أهل السنة والجماعة.
واختلف المؤرخون في سبب التسمية بالجامع الأزهر، والراجح أنه سُمي في البداية بجامع المنصورية نسبة إلى المدينة التي بُني فيها، ومع دخول الخليفة المعز لدين الله مصر سمى المدينة بالقاهرة، وهكذا أصبح اسم المسجد جامع القاهرة، ثم أعيدت تسمية الأزهر تيمنًا بالسيدة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها وأرضاها- ابنة النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول إن اسم الأزهر اشتق من القصور الزاهرة تيمنًا بالحدائق الملكية التي اختيرت من قبل الملقب بـ"العزيز بالله".
زلزال 1302
تذكر كتب التاريخ أن الجامع الأزهر تعرض عبر تاريخه لهزات أرضية حيث ضرب منطقة الجامع زلزال عنيف عام 1302م، ألحق على إثره أضرارًا كبيرة كانت في عهد الظاهر بيبرس، وتم إصلاحها وبناء العديد من الأروقة المجاورة لمبنى الجامع إضافة إلى نافورة مياه استخدمت في الوضوء.
عُرف عن الأزهر وقفته الجريئة أمام الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت الذي غزا مصر عام 1798م، على إثر الخطاب الشهير الذي ألقاه في الإسكندرية قائلاً: "سيقال لشعب مصر إنني جئت لتدمير دينكم، لا أعتقد ذلك؛ وردي على هذا: لقد جئت لاستعادة حقوقكم ومعاقبة المغتصبين والمماليك، أنا أحترم الله ورسوله والقرآن، أليس نحن الذين كنا على مر القرون أصدقاء للسلطان؟".
التصدي للحملة الفرنسية
وبمرور الوقت دنس أفراد الحملة المسجد بأحذيتهم وربطوا خيولهم في المحراب، وألقوا بنسخ من القرآن الكريم على الأرض، فاشتعل غضب المصريين وانتفض طلاب الأزهر بسبب ما فعلوه، فقتل الطالب سليمان الحلبي جان كليبر قائد قوات الحملة آنذاك، ونادى علماء ومشايخ الأزهر بالحفاظ على اللغة وتعليم القرآن الكريم، فانتشرت "الكتاتيب" في ربوع البلاد وقام الجامع الأزهر بدوره، ووقف كحائط صد قوي حتى لا تذهب اللغة العربية كما ذهبت من بعض الدول العربية الأخرى.
وأمر نابليون بغلق الجامع الأزهر وظلت أبوابه مغلقة حتى وصول المساعدات العثمانية والبريطانية في أغسطس 1801، حيث فقد المسجد الكثير من محتوياته بالغزو الفرنسي الذي تحطمت أحلامه على يد المصريين الأبطال؛ فانسحب نابليون وجنوده، وجاء محمد علي وعكف على التعليم، فأخذ المطبعة التي أحضرها نابليون بونابرت معه وأفرد لها مكانًا خاصًا في بولاق، وكانت تطبع المنشورات لتعلق على أبواب الحارات باللغتين العربية والفرنسية، فأحب المصريون التعلم والقراءة والكتابة إضافة إلى البعثات والترجمة التي شهدت نهضة علمية، فألف رفاعة الطهطاوي كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
توسعة ملكية
شهد المسجد توسعة وترميما في عهد عباس الثاني خديوي مصر والسودان في عام 1309هجرية الموافق 1892م ، بإعادة هيكلة الواجهة الرئيسية للمسجد، حيث بنى الرواق الجديد، واستمرت التجديدات التي كتبها جده إسماعيل، فتمت استعادة لجنة حفظ الآثار الفنية العربية، واستعاد الصحن الفاطمي الأصلي أيضا، وكانت هذه التجديدات اللازمة على حد سواء بمساعد تحديث الأزهر، وواصل الأزهر صموده ضد الاحتلال الإنجليزي؛ فحافظ على اللغة والهوية؛ حيث أسهم بقدر كبير على تأصيل اللغة العربية.
وشهد الأزهرعمليات تطوير كبرى، فقد أضيفت كليات علمية بجانب الكليات الشرعية لربط علوم الدنيا بالدين، حيث تم إنشاء كليات الطب، والهندسة، والتجارة، والعلوم، والزراعة، وغيرها؛ وأدت إصلاحات المناهج إلى نمو هائل في عدد الطلاب المصريين الذين حضروا إلى المدارس.
ظل الأزهر في بث إشعاعه الإيماني والحضاري، فتوسع في استقبال الآلاف من الطلبة الوافدين من شتى ربوع العالم؛ لينيروا بعلمهم الوسطي المعتدل الذي اغترفوه من نبع الجامع الأزهر وجامعته كل دول العالم؛ ليكونوا سفراء على قدر المسئولية.
وتستمر مسيرة الأزهر في الكفاح حتى جاء الإمام محمد الخراشي الذي كان يلقب بشيخ الإسلام ليتولى منصب الإمام الأكبر بعد مرور741 عام على إنشاء الجامع الأزهر، وتحديدًا عام 1101 هـ، ثم جاء من بعده فضيلة الشيخ محمد النشرتي، ثم عبد الباقي القليني، فـمحمد شنن، وشلتوت، ثم الإمام عبد الحليم محمود، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والدكتور سيد طنطاوي، وآخرهم الدكتور أحمد الطيب الذي يترأس مشيخة الأزهر حتى تاريخه.
القوة الناعمة
قال الدكتور مجاهد توفيق الجندي أستاذ التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية ومؤرخ جامعة الأزهر، إن الجامع كان وما زال له دور مؤثر في تاريخ مصر الحديث والقديم، فلا أحد يستطيع إنكار دوره في الداخل والخارج، مشيرًا إلى أن دول العالم تنظر لخريجيه وعلمائه وشيوخه بعين الاحترام والتقدير، وينبغي على الجميع احترام القوة الناعمة والاستفادة منها وتوظيف المتاح في خدمة الوطن.
وأوضح الجندي لـ"الفتح" أن مصر تمتاز بالقوة الناعمة المتمثلة في الأزهر، ومن الممكن استغلالها بالصورة المثلى في قضية سد النهضة مع أديس أبابا، كذلك مع دول الحوض الإفريقي، مطالبًا بالتنسيق بين الطلاب الوافدين والمؤسسة الدينية في مصر، وربط هذا التعاون لصالح البلاد.
وطالب مؤرخ جامعة الأزهر باستعادة المؤسسة الدينية لمكانتها العلمية المرموقة، ولا يتأتى هذا إلا بدراسة أمهات الكتب التي خرجت أمثال الشيخ عبد الله الشرقاوي الذي وقف في وجه الحملة الفرنسية، مشددًا على ضرورة وقف البرامج المحرضة ضد علمائه وشيوخه وعدم استضافة غير المؤهلين حتى نستطيع وقف طوفان الفتاوى الشاذة.
وأكد الدكتور محمود عبد المنعم أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم بجامعة الأزهر الشريف، أن جامعة الأزهر من أقدم جامعات العالم إن لم تكن أقدمها على الإطلاق، وتاريخ الأزهر له دور كبير عبر مشايخه الأفاضل الذين نشرت تاريخه عبر دول العالم، حيث كانت له صولات وجولات.
وأضاف عبد المنعم لـ"الفتح" أن الأزهر كان يتميز في السابق بأموال الوقف التي كانت تنفق على مشايخه وطلابه، حيث كان لجمال عبد الناصر معه شأن آخر، فاستخدم نهج الاحتواء والسيطرة تحت ستار التطوير والتجديد, فقام بأصدار العديد من القرارات للسيطرة على الأزهر وتوظيفه لصالح أهداف نظام ثورة يوليو1952م، فحدد دور العلماء ومشايخ الأزهر، وصدر مرسوم بقانون 180 لعام 1952م بعد 5 أشهر فقط من اندلاع الثورة بإلغاء الوقف الأهلي عبر وزارة الأوقاف لصالح الهيئة العامة للإصلاح الزراعي بقيمة 50 جنيهًا للفدان، فتوقف ريع الأزهر من 8 ملايين جنيه في خمسينيات القرن الماضي، إلى 800 ألف جنيه فقط في العام، فتم ضرب الركيزة الأساسية لعلماء الأزهر حتى يتراجع دوره عن عمد.
واستطرد: تبع ذلك إلغاء المحاكم الشرعية, فتم تأميم مشايخ الدين لصالح أنظمة الحكم وعرف هذا الوقت بصوت الجمود والعداوة، وتبع هذه القرارات المزيد من القوانين في ستينيات القرن الماضي لتحجيم دور الأزهر ومسيرته؛ إذ كان المغزى الرئيسي هو ربط الأزهر ومشايخه الكبار وعمداء ورئيس الجامعة وكذلك أعضاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والمؤسسة الدينية بأكملها، لتكون تحت يد رئاسة الجمهورية، وهكذا نجح عبد الناصر في تأميم الأزهر، ومن يومها بدأت تتحكم الدولة في الأزهر فضعف صوته وخفتت رايته.
وطالب أستاذ التفسير وعلوم القرآن، أن يعود الأزهر إلى مجده أيام أن وقف صامدًا تجاه الحملة الفرنسية ثم الاحتلال الإنجليزي، واستطاع -بفضل الله ثم بفضل علمائه وطلابه والعاملين فيه- أن يحفظ للبلاد لغتها وعروبتها، وسيظل هكذا حتى أبد الآبدين؛ مشددًا على ضرورة إرجاع دار الإفتاء والأوقاف تحت عباءة الأزهر الشريف، وعودة هيئة كبار العلماء المعنية إلى انتخاب شيخ الأزهر والمناصب القيادية في الجامعة، وتوفير الحياة الكريمة لأساتذة الجامعات والمعاهد الأزهرية على مستوى الجمهورية؛ للحد من عمليات التشويه الممنهج التي تتم عبر كثير من وسائل الإعلام رغم التقصير في الالتزام بالدين من بعض العاملين في الأزهر.
قال الدكتور محيي الدين عبد الله وكيل كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، إن الأزهر استطاع عبر قرون طوال حمل لواء الدعوة ونشرها في ربوع العالم الإسلامي باعتدال ووسطية مستخدمًا في ذلك قوله تعالى {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}؛ فمناهجه تمتاز بالدارسة على المذاهب الأربعة، مشيرًا إلى أن فكره وسطي ومعتدل يتناسب مع العقل والنقل والواقع؛ لذا فتح أبوابه لاستقبال الوافدين من جميع أنحاء الدنيا دون كلل أو ملل.
وتابع محيي الدين لـ"الفتح": سلوا علماء الحديث والتفسير واحتكموا إلى المنصفين، قولوا لهم إن الأزهر حافظ على السند ثم المتن والنص ولكل قواعده ومبادئه، وقديمًا قال أحد المؤرخين إن المسلمين استطاعوا أن يحفظوا تاريخهم من خلال الأزهر.
وأنشد أبياتًا لأمير الشعراء أحمد شوقي
قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا *** وَانثُر عَلى سَمعِ الزَمانِ الجَوهَرا وَاجعَل مَكانَ الدُرِّ إِن فَصَّلتَهُ *** في مَدحِهِ خَرَزَ السَماءِ النَيِّرا وَاذكُرهُ بَعدَ المَسجِدَينِ مُعَظِّمًا *** لِمَساجِدِ اللهِ الثَلاثَةِ مُكبِرا وَاخشَع مَلِيًّا وَاقضِ حَقَّ أَئِمَّةٍ *** طَلَعوا بِهِ زُهرًا وَماجوا أَبحُرا كانوا أَجَلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَةً *** وَأَعَزَّ سُلطانًا وَأَفخَمَ مَظهَرا
وقف المملكة
وفي لفتة طيبة أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، مرسومًا ملكيًا بتجديد الجامع الأزهر على نفقة المملكة العربية السعودية، وأعرب بعدها الأمير بندرعن اعتزازه بقيام الأزهر الشريف وشيخه وعلمائه بمنحه الدكتوراه الفخرية في العلوم الإنسانية لخدمة القضايا الإسلامية والعربية، معتبرًا هذا التكريم تكريمًا لكل إنسان عربي مسلم سعى ويسعى لنُصرة هذا الدين الحق، وفقَ فهم صحيح لجوهر الإسلام وسماحته ووسطيته؛ لا إفراط ولا تفريط.
وحرص الملك سلمان أثناء زيارته إلى مصر على مطالعة الجامع الأزهر بنفسه وقال: "على بركة الله، بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين في الأزهر، ونسأل الله –عزوجل- أن يوفقنا لخدمة الأزهر لأنه من المساجد التي يعبد فيها الله، ويدرس فيها الإسلام، ونرجو التوفيق إن شاء الله، وندعمهم بكل ما يلزمهم إن شاء الله، واستكمال ما بدأه الملك عبدالله بمنحة سعودية مقدارها 124 مليون ريال، وندعمهم بكل ما يلزمهم".
مصادر بمكتب بكة
تواصلنا مع عمال الترميم والمهندسين المشرفين على المشروع، في البداية وجدنا صعوبة كبيرة بخصوص الإدلاء بأية معلومات، لكن بمرور الوقت علمنا إن إجراءات الترميم أسندت لمكتب بكة، وقُسم العمل على 4 مراحل، واستخدمت أحدث أجهزة نظم الترميم في العالم، وفق عدة مراحل: الأولى تهتم بالإنشاءات والهيكل الخرساني، والثانية بإعادة الشكل والطراز الإسلامي الفريد لعمارة جامع الأزهر، أما الثالثة فتهتم بتغيير شامل لشبكات المياه والصرف وتجديد شامل للإضاءات لتكون نسخة مصغرة من الحرمين الشريفين.
أكبر أزهري في العالم لـ"الفتح": الأزهر منارة الإسلام.. ولن تستطيع الأيدي الخبيثة النيل منه