ورحلت أمي

رثاء

فاطمة رياض

  • 2863

ماتت التي كنا نُكرم من أجلها، ماتت صاحبةُ أطهر وأنقى قلب على وجه الأرض، ماتت الصوّامة القوّامة القانتة المتصدقة، ماتت حافظة القرآن الذاكرة لله كثيرًا، ماتت معلمة القرآن، ماتت الداعية إلى الله، ماتت التي لم تردّ سائلًا قط، ماتت التي لم تترك بابًا لخير إلا وولجته، ما عرفها أحدٌ إلا وتركت فيه أثرًا وعلمته خيرًا وذكّرته بالله، كانت ودودةً بشوشةً قلبها مثل أفئدة الطير، كانت ساعيةً للخير وقدمها تشهد عليها..

عاشت مع أبي سبعًا وثلاثين عامًا ولم ترفع صوتها عليه مرة واحده، ولم تحدّ النظر في عينيه قط، ويحلف أبي أنها ما أغضبته يوما وما آذته يوما، كانت حليمةً إذا جُهل عليها ولا يزيدها كثرة الجهل عليها إلا حلمًا

كانت كلما حزبها أمرٌ فزعت إلى الصلاة، تشتكي إلى الله ولا تشتكي لأحد.


عشتُ معها عشرين عامًا  ووالله ما شتمتني قط، ولم أسمعها أبدا تسب أحدًا أو تغتاب أحدًا، ولم أتحفظ على  سلوك لها في تربيتي ولا في معاملاتها مع الناس ، ومن أنا حتى أتحفظ عليها؟!

كانت تحب زوجي وتوصيني بطاعته فهو سبب دخولي الجنة ، وتوصيني على أم زوجي دائمًا ، وتحب زوجات إخوتي مثل حبها لي وأكثر وتوصي إخوتي دائمًا بالإحسان إليهن.


كانت صبورة صبرًا يهد الجبال، كنت أتعجب من صبرها وأسألها - في بعض المواقف العصيبة التي تمر بها - لمَ تتحملين كل هذا يا أمي؟ كانت تقول " أصبر ولي الجنة ، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا " وتذكّرني بآيات القرآن التي تتحدث عن جزاء الصابرين..

كانت تنام وليس في صدرها شئ من أحد كانت عفيفةَ القلب سليمةَ الصدر..

كانت متواضعة بسيطة تصاحب الكبير والصغير والطفل والكهل

كانت تقوم على خدمة الصائمات المعتكفات في رمضان ولا تتناول إفطارها؛ حتى تطمئن أن كل الصائمات قد أفطرن، ثم تجدها أول من يستقبل القبلة استعدادًا للصلاة، وفي قيام الليل تجدها صافَّة قدميها لله لا تجلس بل وكانت تحمل عني ابنتي حتى تعينني على الصلاة بخشوع بل وكانت تفعل ذلك مع غيري من صغيرات السن ممّن لديهن أطفال..

في رمضان الماضي كانت تلقي كلمة بعد صلاة التراويح عن الحب في الله ثم قالت " كل أخت تخبر من بجانبها بأنها تحبها في الله" ففعلت الأخوات ما طلبته ثم بكت وقالت وأنا أحبكم في الله وأحب هذا المسجد - مسجد التوبة - وإنه لأحب المساجد لقلبي ، ولم تكمل الدرس وقامت واحتضنت كل من كان بالمسجد ، وكأنها كانت تودعنا للمرة الأخيرة، وفي قنوت آخر ليلة وترية كانت تبكي بحرقة شديدة لم أعهدها عليها، وكأنها كانت تشعر أن هذا آخر رمضان لها في حياتها..


أذكر مرة أنها اصطحبتني معها لزيارة المقابر للتذكرة والعظة وعندما رأينا المقابر دمعت عيناها وقالت:  " هذه الحفرة هي نهايتنا، مهما عمّرنا في الدنيا ، وجمعنا فيها من أموال ولُقبنا بأحسن الألقاب، فلن ينفعنا إلا عملُنا الصالح، ولن يبقى لنا إلا ما أعددناه لأنفسنا" 

وها قد رحلتِ يا أمي وأعددتي العدة للقاء ربك وأحسبك أنك من الصالحات..

رحلتي بعدما أتيتِ من العمرة مباشرة مغسولة من كل ذنب

رحلتي وودعتي أحب المساجد لقلبك، وكل زاوية فيه تشهد على بكائك وأنينك بين يدي الله، وكل ركن فيه يشهد على ترتيلك للقرآن..

رحلتي وقد استجاب الله دعائك " اللهم لا تردّني إلى أرذل العمر وأحسن ختامي"

رحلتي وتركتي في قلبي غصةً لا يعلمها إلا الله، رحلتي وتركتي قلبي يعتصر ألمًا على فراقك وشوقًا للقياكِ،  ولن يعوضني فراقك أهل الأرض أجمعين..

أتعلمين يا أمي؟  بعد احتضارك كنت أستوعب كل شئ حولي جيدًا، لكن الفكرة الوحيدة التي لم أكن أستوعبها هي فكرة موتك، وإلى الآن يا أمي عقلي يرفض التصديق..


بعد صلاة  الجنازة رجعت مسرعة إلى البيت أسابق خطاي وكنت على يقين أني سأجدك في غرفتك وأضمك إليّ وأسألك ما الذي يحدث، ولما رجعت ولم أجدك كانت صدمةً هدّت قلبي، وإلى الآن لا تغيبي عن ناظري طرفة عين..

لكن عزائي يا أمي وجهك المنير المبتسم المستبشر بعد الغسل ، عزائي أنك غُسّلتي بماء زمزم ، فالطاهر لا يُغَسَّل إلا بالطاهر ، عزائي أن أول آية سمعتها من المشغل بعد احتضارك " إنّ أصحاب الجنة اليوم في شُغُل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك مُتّكئون" 

عزائي يا أمي جنازتك المشهودة التي شيّعك فيها آلاف الناس وكلهم حزانى على فراقك


فاللهم حقق فينا قولك " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتُهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ"


 أدعو الله لك بدعائك الذي كنتي ترددينه أن يرزقك الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب، وأن يمتعك بالنظر إلى وجهه الكريم، ويسقيكي من يد النبي من نهر الكوثر كما أسماكي كوثر

موعدنا على الكوثر بإذن الله ، والملتقى الجنة يا أمي 


إنا لله و إنا إليه راجعون، إنا لله و إنا إليه راجعون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.