عاجل

قيّده لِتسعد

لا تتبع القيل والقال

نهى عزت

  • 652

نِعمُ الله علينا لا تعد ولا تُحصى، ومن جميل نعمه -سبحانه- أن وهبنا حواسًا تُفضلُنا عن كثير من خلقه تفضيلًا، وجعل لهذه النعم فضائل جمة، وحتى تسمو وتعلو شأنها ضبطها بضوابط ليُرشدنا إلى أسمى الأخلاق وأفضل الآداب.

ومما أكرمنا به -عز وجل- نعمتي العقل والبيان، فكان آكد شكرهما على كل إنسان حتى تُحفظ عليه فمن شكرهما زاده الله، ومن كفرهما كانتا نقمة عليه واستحق سخط الله.

لأجل ذلك عنى الإسلام بأمر اللسان عناية عظيمة، فنجد القرآن الكريم والسنة النبوية المُطهرة تحمل نصوصًا تدعو إلى ضرورة القول الطيب وتحث عليه قال تعالى {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}، والقول الطيب يشمل كل قول مأمور به الإنسان، ولا شك أن خير الكلام كلمة التوحيد والشهادة، "أشهد ألّا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله" ثم يليها كل مستحبٍ قوله من كلمة طيبة.

وفي ظل هذا العصر الذي طغت فيه الماديات ووُصف بالسرعة في كل شيء، وانشغل الكثير بحالة، وقل فيه الاعتناء بالكلمة الحسنة، ومراعاة مشاعر الغير، والحرص على تطييب الخواطر ونشر أواصر المحبة بالكلمة التي قد تكون في نظر البعض هينة، لكنها عظيمة لا يقدر عليها إلا أصحاب النفوس السوية والقلوب التي على فطرتها، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} فالكلمة الطيبة تُرسخ في النفوس الأُلفة والمحبة وتقلل التوتر والضغط النفسي عن الكثير، قال بعض الحكماء: "كلامُ المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".

الكلم الطيب مطلبٌ جميلٌ مع كل أحد الأهل والأصدقاء والأحبة ليدوم الود، ويحبذ مع الأعداء حتى يزيل الوحشة، ويمحو الخصومات والضغائن قال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

أما من لم تحمله نفسه على هذا، وليس عنده المقدرة على إيصال الطيب من القول، فكان علاجه الصمت وكف الأذى عن الناس، عملًا بتوجيه رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

وتواترت الأحاديث في التحذير من اللسان وآفاته، حتى أن الصحابي الجليل معاذ بن جبل قال متسائلًا للنبي: "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم يا رسول الله!؟ قال ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".

وكما قيل: اللسان مغرفة القلب وبه تعلم مكنونات الصدور، وقد وصف الله -عز وجل- ذوي الإيمان وأرباب التقى، بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل قولًا أو فعلًا، فقال عز شأنه: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" فحِفْظُ اللسان عن المآثم والحرام دليلٌ على استقامة العبد وكمال إيمانه، كما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه" بل لو نظرنا لجوارحَ الإنسان كلَّها نجدها مرتبطة باللسان استقامة وانحرافًا، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاءَ كلَّها تكفِّر اللسان؛ تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا؛ وإن اعوججت اعوججنا"، قال الإمام النووي رحمه الله: "معنى (تكفر اللسان) أي: تَذِلُّ له وتخضع".

فنصيحة لي أولًا وتذكيرًا لكم أحبتي، ليست العبرة بكثرة القيل والقال بل العبرة بإصابة الحق، وكم من أناسٍ جرَّتهم شهوة الكلام إلى المهالك، فلا يدعنا فضول القول والكلام وحب الثرثرة أن يتكلم كلٌ منا بما لا يعلم وأن يهرف بما لا يعرف، فإن هذا الخوض الكثير يوقع المرء في الآثام من غيبة ونميمة وقول زور، واستهزاء أو سب وتطاول تأبهُ النفوس السليمة الوقوع فيه، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه"، وقال بعض السلف: "أطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مُنطلِق وفؤاد منطبق".

ولنعلم جميعًا أن حفظَ المرء للسانه وقلةَ كلامه عنوانُ أدبه؛ وزكاءُ نفسه؛ ورجحانُ عقله، قيل في مأثور الحِكَم: "إذا تم العقلُ نقص الكلام".

ولذا فمن الحزم والرشاد اجتناب فضولِ الكلام، وحفظ اللسان عن كل ما لا ينفع ولا يفيد في أمر دينٍ أو دنيا؛ وكما قيل لكل مقام مقال، فلا بد أن يقتصر الكلام على ما يحقق الغاية أو الهدف، وحسبما يحتاج إليه الموقف، ومن لم يترتب على كلامه جلب نفع أو دفع ضر فلا خير في كلامه وبهذا وصى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في الحديث "إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: -وذكر منها- "قِيلَ وَقَالَ".