شيءٌ من التغافل؛ لنمضي

  • 134

أحيانًا تتطلب منا الحياة التغاضي والتغافل حتى تسير الأمور، ولكن قد يكون هذا الأمر ثقيلًا خاصة إذا كانت فيه إرادة طلب انتصار للنفس، ولكن الله -سبحانه وتعالى- الذي يعلم خفايا الصدور ويجازي بالإحسان إحسانًا قد أرشدنا وبيَّن لنا طريقة التصدي لهذا الأمر وكيفية الانتصار على النفس فيه، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
وبيّن نبينا الكريم "أن كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون" فكما نحن نُخطئ ويغفر الله لنا، فمن حق العباد علينا أن نغفر لهم زلاتهم، بل نتغافل عنها كأن لم تكن حتى نستطيع التعايش ولا نصل إلى حد القطيعة والهجر والتشرذم والابتعاد عن بعضنا البعض سواء في العلاقات القريبة أو العابرة.
وقد قال أحد الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل، فكلما أجدنا التغافل أقفلنا بابًا من أبواب الشر.
والمُشاهد أن فضيلة خلق التغافل المحمود ثابتة في أقوال وأفعال السلف رضوان الله عليهم، يقول الإمام أحمد بن حنبل "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"، ويقول الحسن البصري: "ما زال التغافل من فعل الكرام"
من يدقق في خلق التغافل بين كل أفراد المجتمع القريب والبعيد يرى أن من يطبقه في حياته يقي نفسه ومن حوله من مشاكل عظام قد تكبر وتزيد من أقل كلمة أو فعل، فمثلًا: الزوجان عندما يتغاضان عن سفاسف الأمور خاصة فيما يتعلق بالأمور الشخصية، والأمور التي لا يترتب عليها فساد أو صلاح البيت، من حاجات الدنيا الفانية التي لا تزيد ولا تنقص إلا إيغار الصدور حينها ينصلح حال البيت ويحيا كلاهما في سلام ووئام مع بعضهما البعض، وهذا ما أشارت إليه بعض روايات التفسير إلى إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض ما أعلنت به حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها- مما قد أسره النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها تكرمًا، قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ..}، قال القرطبي -رحمه الله-: (وَمَعْنَى "عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ" عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ تَكَرُّمًا).
كذلك الإخوان والأقارب والأصدقاء وكل من يربطهما علاقة تعامل إذا تغاضى كل منهما عن هفوات وسفاسف الأمور والنظرات والكلمات العابرة والمواقف غير الناضجة تستمر بينهما الصلة الطيبة والحياة المستقيمة.
وليس هذا الخُلق دعوة للسلبية والغفلة، أما والذي لا يجب أن نتغافل عنه أبدًا ولا نعتبره من الأمور العابرة هو كل ما يتعلق بحق من حقوق الله تعالى، بل أن من المؤسف في عصرنا في بعض البيوت التي يتغافل فيها الزوج أو الزوجة عن تقصير كليهما في العبادات الواجبة، وعدم متابعة أبنائهما فيما يتعلق بصلاح دينهم وأمر آخرتهم، ويزداد بينهما الشجار والخلاف على مأكل وملبس وأمور مادية دنيوية بحتة، فينقلب معيار التغافل المحمود إلى مذموم بل تضيع به الحقوق الواجبة المستحقة ويتفلت البيت ومن بعده المجتمع بسبب تفشي هذه الظواهر التي يعلل فيها البعض حرية الدين والاعتقاد وأن هذه علاقة بين العبد وربه لا يصح لنا أن نتحاكم أو نتناصح فيها فلا يصح أن نترك الحبل على غاربه في عظائم الأمور وأمهاتها.
بل نؤكد على أن الذي يجب أن نتغافل عنه ما محله الإهمال والترفع عن الحساب على الهفوات والتي لا تؤدي إلا للخلافات والمنازعات ومنغصات الحياة، التي لابد أن تقع بيننا لأننا بشر غير معصومين، وهذا حتى تستمر الحياة طيبة بين الجميع.
وكما وصف الشاعر سيد القوم بأنه هو من يتغافل ويغفل عن هينات الأمور بحكمةٍ وفطنة عن قصد:
 ليس الغبي بسيد في قومه   لكن سيد قومه المتغابي
والذي اعتبره معاوية -رضي الله عنه- ثلثي مكيال العقل بقوله: "العقلُ مكيالٌ، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل".