البوسنة والهرسك.. مأساة شعب مسلم واجه العدوان

الانفصال يقترب من البوسنة.. ساحة جديدة للحرب بين موسكو وواشنطن

  • 2981
مسجد في البوسنة والهرسك

لطالما عانى المسلمون من أشكال الاضطهاد والتمييز، ودائمًا ما تكالبت عليهم يد الإثم العابثة على مر عصور التاريخ، فلا يوجد بقعة في العالم لم يشهد ترابها على اعتداءات وانتهاكات بحق أبناء الإسلام، ومأساة المسلمين في البوسنة والهرسك قديمًا وحديثًا ليست قصة المعاناة الأولى للمسلمين، فهي أحد فصول العدوان الذي واجه المسلمين ولا يزالون يتعرضون إليه حتى وقتنا هذا.

مسلمو البوسنة والهرسك عاشوا تاريخًا أسود داخل غابة من أنياب الظلام، قتلهم الصِرب، وعذَبهم الروس، وأذاقتهم النمسا ويلات من الجحيم، وحاصرهم الكرواتيين، ووجه إليهم الجميع أصابع الاتهام، وأقرُّوا ظلمًا بأنهم مُدانون بغير خطايا، إلا أنَّ أهل الإيمان كانوا أشدَّ بأسًا وجلدًا وتحملًا، وكانوا أقوى من كيد المعتدين، وها هم اليوم يمثلون ثُلثي الشعب البوسني رغم الأذى والافتراءات.

ما هي البوسنة والهرسك

البوسنة والهرسك هي إحدى دول شرق أوروبا اليوم، كما أنها إحدى جمهوريات يوغوسلافيا السابقة، ويحاصرها من الشمال والغرب والجنوب كرواتيا، وفي شرقها صربيا والجبل الأسود، وتطل البوسنة والهرسك من الجنوب الغربي على البحر الأدرياتيكي الذي تسيطر عليه كرواتيا، وهذا الموقع المميز ساعد الدولة العثمانية في فتوحاتها الإسلامية، حيث استخدمتها كقاعدة تعبر منها حتى بلجراد وأسوار فيينا، وعدد المسلمين في البوسنة والهرسك اليوم يقترب من ثلثي عدد السكان، بنسبة تتخطى 61% من كل السكان.

إسلام شعب البوسنة

شهدت نهاية القرن التاسع عشر، إسلام كثير من أهل البوسنة في ظل الخلافة العثمانية، التي كانت تحكم كثيرًا من بقاع بلاد أوروبا آنذاك، ومع ضعف الدولة العثمانية، احتلت النمسا والمجر البوسنة، ومنذ هذا الحدث، بدأ تاريخ مأساة المسلمين، والجرائم العاتية بحق كل من اعتنقوا الإسلام، بجانب عمليات التنصير.

وبعد عام 1877انتقلت البوسنة لحكم انتقالي بيد النمسا والمجر بسبب هزيمة الدولة العثمانية على يد روسيا، وهنا كانت مرحلة ثانية من التعذيب والحصار ضد المسلمين الأمر الذي أدى إلى قيام حركات هجرة المسلمين من البوسنة.

معاهدة برلين

كانت معاهدة برلين حدثًا لا ينساه المسلمون، لأنه كان بداية تاريخ عدوان النمسا والمجر والصرب على المسلمين، فقد سمحت النمسا للعصابات الصليبية والصرب والكرواتيين ببدء حروب قتل وتصفية وتعذيب المسلمين، وحرمانهم من حقوقهم

الحرب العالمية الأولى

قتل أحد الصرب وليَّ العهد النمساوي، وهذا كان السبب الرئيس والوحيد تقريبًا في قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914، وهنا أيضًا كانت مرحلة جديدة من القمع والعدوان ومصادرة أراضي وبيوت المسلمين، وأصبح المسلمون متهمين من الجميع، حيث اتهمهم الصرب بموالاة دول المحور؛ واتهمهم الكروات بموالاة الصرب، ولذا تعرضوا للتنكيل من الطرفين طوال سنوات الحرب العالمية الأولى.

وفي الحرب احتلت كرواتيا البوسنة، بمساعدة ألمانيا التي أرعبت العالم وقتها، وأذاقت المسلمين جرائم لا تحصى، ورغم إنشاء يوغسلافيا الاتحادية عام 1945 عبر ضم 6 دول وهم "كرواتيا وصربيا وسلوفينيا ومقدونيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك"، إلا أن الشيوعيين شكلوا هذا الاتحاد وحكموا يوغسلافيا، ومارسوا القتل والتعذيب بحق المسلمين، وقضوا على الحركات الإسلامية؛ كحركة "الشباب المسلم" عام  1949، وكانوا يلقون بالمسلمين أحياء في آبار طبيعية، ويضربون الأطفال الضعفاء على الصخور، ويذبحون من عاش منهم ويلقون بالجثث دون دفن، وبعد وفاة زعيميهم الشيوعي تيتو انهار اتحاد يوغسلافيا، وتفككت الدول الستة وانفصلت بالكامل، وتحطمت معه آمال صربيا في أن تكون إمبراطورية عظمى.

استقلال البوسنة والهرسك والحرب ضد المسلمين

استقلت البوسنة والهرسك عن يوغسلافيا والصرب في منتصف أكتوبر عام 1991، وتأكد ذلك الاستقلال رسميًا بعد استفتاء في مارس 1992، الأمر الذي دفع صربيا لمحاولة تأسيس اتحاد جديد، وأرادوا ضم البوسنة والهرسك مرة أخرى، ودخلت دبابات صربيا أراضي البوسنة والهرسك، وامتد العدوان وشمل المسلمين وحدهم، وجاهدوا دون مساعدة من أحد ضد الجيشين الصربي والكرواتي.

واستهدفت ميليشيات صربيا أئمة المساجد ورجال الدين، وكانوا يقتلونهم ويضعونهم على رأس مآذن المساجد، وزادت حملات تنصير المسلمين، وخطف الرهبانُ ما يقرب من50 ألف طفل بوسني مسلم من المستشفيات ومراكز اللاجئين، وشحنوهم في حافلات إلى بلجراد في النمسا وألمانيا من أجل التنصير، وكان العالم يشاهد في صمت كما يفعل اليوم مع العدوان ضد المسلمين.

مجازر الصرب ضد المسلمين

جرائم الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك لا تحصى، ما بين قتل وتعذيب المسنيين والأطفال واغتصاب النساء، وانتهت الحرب ضد المسلمين في الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1995، بتوقيع اتفاقية دايتون للسلام، وخلفت الحرب 200 ألف قتيل، ومثلهم جرحى ومعاقين، والعديد من المقابر الجماعية في مدينة، وآلاف القتلى من الأطفال، وتدمرت البنية التحتية كاملة، وتركت الحرب عشرات الآلاف من الألغام في أراضي المسلمين، ومئات الآلاف في العراء دون منزل.

البوسنة والهرسك اليوم

يعيش في البوسنة مئات الآلاف من الصرب الذين يثيرون نزعات الانفصال والانقسام، ويتلقون الدعم من روسيا وصربيا واليمين المتطرف في دول الاتحاد الأوروبي، ويدعون لانفصال صرب البوسنة واستقلالهم في دولة جديدة وحدود وحدهم، وتقسيم البوسنة والهرسك، مما يثير تهديدات بنشوب حرب أهلية في البوسنة.

مؤشرات الانفصال

أحقاد الصرب وتحديدًا المسئولين منهم تتنامى تجاه المسلمين في البوسنة، ودعوات الانفصال باتت صريحة وواضحة، فبعد عدة وعود من رئيس جمهورية صرب البوسنة، ميلوراد دوديك بإنشاء جيش جمهوري صربي، والقضاء على وحدة تراب البوسنة والهرسك، وإنشاء دولة موحدة مع صربيا على إقليم كوسوفو، وافق برلمان صرب البوسنة على تنظيم الانسحاب من 3مؤسسات بوسنية مشتركة أساسية، وهي الجيش والنظام القضائي والضرائب، خلال الأشهر الستة القادمة.

كما سحب البرلمان صلاحيات إدارة البلاد من يد السلطة المركزية بسراييفو، ومخططات صرب البوسنة نحو الانفصال تقود البلاد لمخاطر تشبه تلك التي حدثت بين عامي 1992، و1995 وراح ضحيتها عشرات الآلاف من قتلى المسلمين، وأكد ميلوراد دوديك أن قرار البرلمان ضمن خطة للقفز نحو الحرية، كما أشار إلى أنه سينسحب من الوثيقة الدستورية لاتحاد البوسنة والهرسك، وسينشئ مؤسسة قضائية، وسلطات ضريبية، ومخابرات خاصة لجمهورية صرب البوسنة.

روسيا ودعم التقسيم

روسيا الداعم الأول لدعوات انفصال صرب البوسنة، وتقسيم البلاد، كما أن موسكو هي التي تقدم كل أنواع الدعم لصرب البوسنة وتأجج مساعي الانفصال وتفتت وحدة البلاد، سعيًا منها لضم كل جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، وتوسيع نفوذ روسيا في الشرق وحدود روسيا البيضاء خاصة دول البلقان التي تعد دولة البوسنة والهرسك أحد مكوناتها.

الدعم الروسي لم يخفِه رئيس صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، بل يعلنه أمام الجميع، وفي نوفمبر  الماضي، قال: "عندما أذهب إلى بوتين لا أكون بحاجة لتقديم مطالب، بل هو الذي يسألني عما يمكن فعله لمساعدتي"، مضيفًا "الرئيس الروسي لم يخذلني قط عندما قدم لي وعوده، وعلى هذا الأساس ثقتي فيه كبيرة".

وفي هذا الصدد، قال السفير معتز خليل مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة، إن مساعدة روسيا لصرب البوسنة على الانفصال تتعلق بصراع موسكو مع واشنطن ودول أوروبا، مضيفًا أنه رغم تركيز روسيا على ضم أوكرانيا، فإنها تحيي جهود الصرب الانفصالية في البوسنة وتدعمهم وتمدهم بالمساعدات.

 وأشار مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة، في تصريحات لـ"الفتح"، إلى أن روسيا تقف بخلف الصرب في مساعي منها لتقسيم البوسنة والرسك، وانضمام صرب البوسنة والهرسك إلى صربيا، أو الاستقلال في دولة جديدة.

عقوبات أمريكية

فرضت الولايات المتحدة، الشهر الجاري، عقوبات مالية على رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك، بتهمة "زعزعة استقرار" البلقان، واستهدفت العقوبات أنشطة دوديك الفاسدة والتي تضر باستقرار البوسنة، وطالت العقوبات قناة "التيرناتيفنا تيليفيزيا" التلفزيونية الخاضعة لإشراف دوديك، ومقرها في بانيا لوكا، كبرى مدن الكيان الصربي.

واشنطن وموسكو وعودة الحرب الباردة

الحرب الباردة كانت سمة العلاقات بين موسكو وواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأحلاف العسكرية-الناتو في الغرب ووارسو في الشرق-، ورغم سقوط إمبراطورية الاتحاد السوفيتي، وانتصار أمريكا في الحرب الباردة وسيطرت على دول الغرب والشرق، يسعى بوتين لإعادة طلاسم الاتحاد السوفيتي من جديد، ورسم الخريطة السوفيتية مرة ثانية، ولذلك تتدخل روسيا في كل مناطق وجود أمريكا وأوروبا.

اليوم روسيا تتحكم في الأوضاع السورية، وسفن موسكو ترسو في البحر الأبيض المتوسط، كما احتلت روسيا شبه جزيرة القرم، وتضع في جعبتها دول عديدة من دول الشرق مثل الشيشان، وتسعى لاحتلال أوكرانيا، وتدعم الصرب للانفصال، كما أن روسيا تهدد أوروبا بورقة المهاجرين عبر بيلاروسيا حليفة بوتين، وواشنطن تحاول ردع روسيا النشطة بتأمين أوكرانيا عسكريًا بأحدث أنظمة الصواريخ، وعلى دربها تسير دول أوروبا، مما يشير بوضوح لا يدع مجالًا للشك، أن العالم يعيش حرب باردة جديدة بين العدويين بإضافة لاعبين جدد هم الصين وقوى دولية عديدة. 

تركيا وأوروبا

تركيا من الدول التي تسعى بشدة للحفاظ على وحدة البوسنة والهرسك، والحفاظ على قوتها، لأن دول البلقان تعد ذات أهمية قصوى لتركيا، لأنها منطقة جوار تركي، كما أن أوروبا لن تسمح بتهديدات روسية صربية في المنطقة، بالإضافة لمساعي أمريكا لمنع انتشار موسكو وتهديد استقرار أوروبا.

وأوضح السفير معتز خليل، أن موقف تركيا في دعم وحدة أراضي البوسنة والهرسك، ومعارضة أي دعوات للانفصال، أمر طبيعي ومنطقي بسبب الوحدة الإقليمية في منطقة البلقان.

وانتقد الدبلوماسي المصري، ميل حكومة البوسنة والهرسك في مواقفها وسياستها الخارجية إلى هوية وسياسات الاتحاد الأوروبي، لافتًا إلى سياسة البوسنة والهرسك في الأمم المتحدة التي  تتسق دائمًا مع دول أوروبا وليس مع دول الاتحاد الإسلامي.

ومما سبق يتضح أن العالم يعيش مرحلة تمهيدية لحرب باردة مستعرة بين أمريكا وأصدقائها في أوروبا، وبين روسيا ومن هم بجانبها مما يشير لتوترات في المستقبل قد تدفع لحرب لن تكون خسائرها قليلة أو هينة، لأن عالم اليوم أصبح أقوى عسكريًا وتكنولوجيًا من ذي قبل، أي أن المخاطر ستكون عظيمة، كما تؤكد أحداث البوسنة أن سمة عدة تهديدات ومخاطر قد تلحق بالمسلمين هناك، وأن منطقة البلقان تعد إحدى مناطق الصراع بين أقطاب العالم في الشرق والغرب.