الأزمة الأوكرانية تكشف ضعف أوروبا وزيادة الهيمنة الأمريكية

  • 66
صورة أرشيفية معبرة

لا يمر أي موقف أو أزمة دون أن تستفيد منه أمريكا، ورغم الصراع الدائر منذ أكثر من شهرين بسبب الأزمة الأوكرانية والمخاوف الغربية من اجتياح روسيا لها، فإن تلك القضية كانت مفيدة لواشنطن على الصعيد السياسي؛ فقد أظهر مدى ضعف الغرب وقوة أمريكا رغم كل شيء.

وأعادت تلك الأزمة النظر إلى أمريكا على أنها الأخت الكبرى للدول الغربية، التي لا يمكن التخلي عنها، وذلك من خلال ضعف حليفاتها بمفردهم في مواجهة الدب الروسي المتوحش الذي يتأهب لأي لحظة ضعف يبتلعهم فيها؛ وما أكد ذلك هو التهديدات الروسية بغزو أوكرانيا وما يجري من حشد عسكري مكثف على الحدود بين البلدين، وهو أول تهديد بالغزو العسكري في قارة أوروبا منذ حروب البلقان في تسعينيات القرن الماضي.

أمريكا قائدة الغرب

وقد أدت أمريكا دور القائد للغرب بنجاح لدرجة إيجاد موقف موحد بينهم بخصوص الأزمة الأوكرانية، عن طريق اتباع دبلوماسية الحذر والتصالح مع موسكو، ورغم أن روسيا تستعرض قوتها أمام الغرب وتتحداهم فإن تلك المعضلة أظهرت مدى حاجتهم إلى أمريكا، وكذلك أهمية وحدة مواقفهم في مواجهة أي تحد.

 ويبدو حتى الآن أن القارة الأوروبية لن تخرج من التبعية الأمريكية على الأقل على مدى عقود مقبلة، حتى رغم التذمر الغربي الذي استمر لمدة عقود من الوجود العسكري الأمريكي الكبير في غرب القارة، هذا الموقف ليس لأن أمريكا لديها أقوى جيش في العالم حسب الموازين العسكرية، وهو الجيش الوحيد القادر على مواجهة روسيا، لكن أيضًا لأن واشنطن لديها أسلحة أخرى تستخدمها ضد خصومها كالأسلحة الاقتصادية.

موازين القوى الأوروبية

الأزمة الأوكرانية وضعت الأمور في نصابها جيدًا وزادت من الهيمنة الأمريكية على الغرب؛ فحتى الآن لا يمكن للدول الغربية تجاوز أمريكا أو السير دونها، لا سيما إذا كان المنافس لهم روسيا؛ لأن أي قوة غير أمريكا كبريطانيا أو فرنسا لا يعوَّل عليها في مواجهة الدب الجيش الروسي. والدول الثلاث الكبار في القارة الأوروبية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لكل منها دور تؤديه بالتنسيق مع واشنطن؛ فبرلين تعد قوة ضغط اقتصادي، وتتولى باريس زمام الجهود الدبلوماسية، وتقوم بريطانيا بدور صقر الاستخبارات الغربي. أما أمريكا فهي القوة العسكرية والاقتصادية الغاشمة والباطشة في أوروبا والعالم أجمع.

تحركات بوتين

وعلى الجانب الآخر، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بويتن مستمتعًا بما يسببه من إحراج للدول الغربية وحلف "الناتو" وأمريكا كذلك، وربما يكون ما يفعله بشأن الأزمة الأوكرانية مجرد محاولة لإرهاق واشنطن اقتصاديًّا من خلال الإنفاق المستمر على الدول الغربية وتسليحهم وكذلك أوكرانيا، وتنقلات جنودها ومعداتهم؛ وفي الوقت نفسه نجد بوتين مستمر في سياسة عقد التحالفات والاتفاقات مع دول الجوار؛ فمنذ أقل من يومين عقد اتفاقية "تعاون الحلفاء" مع أذربيجان، وقبلها بأربعة أيام فقط صدَّق البرلمان الكازاخستاني على اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا.

ويوم الاثنين الماضي أعلن بوتين اعترافه رسميًّا باستقلال منطقتي "دونيتسك" و"لوهانسك" عن أوكرانيا، ولم يقف عند هذا الحد بل وقَّع معهما معاهدة وتعاون وصداقة لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد تلقائيًّا، وأمر قواته بحفظ السلام في هاتين الجمهوريتين، وتمثلت أهم بنود تلك المعاهدة في الدفاع المشترك وإجراءات مشتركة لحراسة حدود الجمهوريتين الجديدتين، وكذلك حق طرفي كل معاهدة (روسيا ودونيتسك، وروسيا ولوهانسك) في استخدام البنية التحتية العسكرية والقواعد العسكرية على أراضي بعضهما، إضافة إلى الاعتراف المتبادل -بين طرفي المعاهدة- بالوثائق الصادرة عن أجهزة الحكومة في البلدين، بجانب دعم روسيا للقطاع المالي والمصرفي بالحمهوريتين؛ على اعتبار أن "الروبل الروسي" هو الوسيلة الأساسية للدفع والتعاملات المالية على أراضي "دونيتسك" و"لوهانسك".

المعاهدة مع الجمهوريتين المنفصلتين تسمح بنشر قواعد عسكرية روسية على أراضيهما؛ ما يعني أن بوتين يحقق ما يريده على أرض الواقع؛ وهو بالأساس عدم السماح للغرب وقوات حلف "الناتو" بنشر قواتهم على الحدود الروسية الأوكرانية، واتخاذ الأراضي الأوكرانية قاعدة للتجسس عليه. وفي الوقت ذاته ومن الناحية العملية ستصبح هاتين الجمهوريتين قاعدتين عسكريتين روسيتين ينطلق منهما لمواجهة القوات الأوكرانية ومن يدعهما من الغرب أيضًا إذا حدثت المواجهة المسلحة.

وبالطبع لم ينسَ بويتن الصين؛ فقد زارها منذ ثلاثة أسابيع والتقى زعيمها "شي جين بينج" وأعلنا عن الوحدة السياسية، واتفقا على إنشاء تحالف اقتصادي يجري التعامل فيه بالعملة الوطنية؛ وهذا يعني ميلاد تحالف شرقي غير مسبوق قطباه روسيا والصين في مواجهة أمريكا والغرب. إضافة إلى التحرك الروسي على جبهة بيلاروسيا وضمان دعم رئيسها الذي أعلن صراحة تأييدَه موقف موسكو تمامًا، بل إنه على أتم الاستعداد لإرسال قوات عسكرية لمساعدتها إذا تطلب الأمر.

لكن رغم كل ذلك، فإننا ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى تشي بإعجابنا باتحاد الغرب في وجه أي شيء يهدد مصالحهم ووحدتهم خاصةً فيما يتعلق بالموقف الأمريكي والسير جديًّا في طريق فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، حتى ولو لم تكن مجدية مع موسكو، ويحق لنا التساؤل: متى نرى توافقًا عربيًّا عمليًّا في وجه المخاطر التي تحدق بنا جميعًا؟ وهل نستيقظ يومًا على وقْع خبر مفاده توقيع عقوبات اقتصادية عربية موحدة على إثيوبيا لأنها تضر بمصالح شقيقتيهما العربيتين "مصر والسودان"؟! أم أنَّنا سنظل نُفجع بأخبار دعمها اقتصاديًّا من إخواننا العرب؟!