"الناتو" بين إعادة البناء أو النهاية الحتمية

  • 49
صورة أرشيفية معبرة

وسط النيران المشتعلة وطلقات المدافع وأصوات الانفجارات يقف حلف شمال الأطلسي "الناتو" في موقف لا يُحسد عليه؛ فإما أن تكون الحرب الروسية الأوكرانية إعادة لتشييد بنيانه وترميمه وإحياء دوره من جديد وتبوُّؤ مكانته اللائقة به، أو تكون بداية نهايته إلى أن يصير في خبر كان.

خلال تلك الحرب المستعرَّة ليس أمام الحلف سوى موقفين لا ثالث لهما: إما أن يقوم بدوره في الدفاع عن أوكرانيا ويكون على قدر المسؤولية معها ومع رئيسها الذي اتبع توجيهاتهم ظنًّا منه بقلة خبرته السياسية وضعف رؤيته الاستراتيجية أنهم داعموه لا محالة ولن يتركوه فريسة للروس- ويساعدها بكل ما يستطيعه ويملكه من وسائل وعلى رأسها الدفاع العسكري والوقوف وجهًا لوجه أمام روسيا؛ لأن أوكرانيا لن تستطيع الصمود كثيرًا أمام الآلة العسكرية الروسية مهما أمدوها بسلاح؛ وبالتالي يستعيد "الناتو" ثقة العالم فيه ويكون بذلك بدأ عهدًا جديدًا من النفوذ والهيمنة. وإما أن يظل متفرجًا هكذا مكتفيًا بالدعم اللوجستي والعسكري دون التقدم لجبهات القتال، متذرعًا بحجة عدم انضمام "كييف" حتى الآن إليه، رغم نشره قواته حاليًّا في الجزء الشرقي من حدود الحلف بالقرب من أوكرانيا من أجل منع توسع الحرب الدائرة ووصولها إلى أراضي "الناتو"؛ لكنه سيخسر كثيرًا على المستوى السياسي القريب والبعيد.

حلف "وارسو"

في عام 1991م سقط الاتحاد السوفيتي وتفكَّك حلف "وارسو" الذي ضم الاتحاد السوفيتي وسبع جمهوريات اشتراكية أخرى لمواجهة حلف "الناتو"، لا سيما بعد انضمام ألمانيا الغربية له في عام 1955م خلال حقبة الحرب الباردة، وانضمت جميع دول "وارسو" إلى حلف شمال الأطلسي عدا روسيا؛ ومذَّاك الحين وحماس الولايات المتحدة الأمريكية ينطفئ رويدًا رويدًا تجاه حلف شمال الأطلسي فيما يتعلق بدعمه، لدرجة ظهور دعوات إلى حل الحلف بعدما اختفى عدوه الأول وهو الاتحاد السوفيتي القوي؛ ونتج عن ذلك تراجع في التزام أعضائه الثلاثين بنفقات الدفاع عن "الناتو".

ومع تولي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن زمام الأمور في واشنطن؛ تجدد الأمل في إحياء العلاقات البينية القوية بين دول "الأطلسي" وتعزيزه، الذي يعد أكبر تحالف عسكري في التاريخ من ناحية عدد الدول الأعضاء، وكذلك أهم حلف سياسي وعسكري عالمي من ناحية القوة والتأثير، لكن هذه القوة وذاك التأثير تعرضا لهزة عنيفة واختبار صعب أمام هجوم الدب الروسي على فريسته الضعيفة أوكرانيا؛ ما مثَّل عقبةً كبيرةً أمام طموحات "الناتو" واستراتيجيته في التوسع شرقًا، أو على أقل تقدير ردع خصومه الذين يقفون حجر عثْرة أمام مصالحه ويهددون حلفاءه وشركاءه.

"الناتو" أمام مفترق طرق وسط تمسكه بسياسة التوسع شرقًا وتصاعد التهديدات الروسية وفشله في ردع الهجوم الروسي على أوكرانيا، وربما تكون تلك الحرب فرصة ثمينة يستغلها الحلف للتمدد والانتشار والتكشير عن أنيابه وفرض سيطرته وإظهار قوته.

مصير "الناتو"

أُسس حلف "الناتو" عام 1949م بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات، وكان سبب تأسيسه هو منع الاتحاد السوفياتي من التوسع في أوروبا، وخلال فترة ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عانى الحلف من مصير مجهول بسبب سياسته وتهديده كثيرًا بالانسحاب منه أو تخفيض مساهمته؛ لأن واشنطن تدفع ما يعادل نسبة 4.2% من دخلها القومي لتمويل "الناتو"، في حين تسهم ألمانيا بنسبة ضئيلة لا تصل إلى 1% من إجمالي دخلها القومي، ومع وصول الرئيس جو بايدن إلى سدة الحكم تنفس "الناتو" الصعداء نتيجة لحماس بايدن الشديد لإحياء الحلف بقوة.

وبجانب نهاية الاتحاد السوفيتي ظهر سبب آخر أضعف من الحزب وأدى إلى ظهور خلافات بين أعضائه؛ وهو تبنِّي أمريكا أولوية الحرب على الإرهاب، وبدأت تلك الخلافات من رفض ألمانيا وفرنسا الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، وذلك بالتزامن مع تنامي فكرة استقلال أوروبا استراتيجيًّا بدلًا من الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية كمسؤول رئيس عن أمن القارة الأوروبية؛ وقد بدا هذا واضحًا في صدام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي دعا إلى بناء جيش أوروبي في عام 2018م، ووصْف ماكرون "الناتو" بأنه يعاني موتًا دماغيًّا، إضافة إلى ضغوط ترامب على حلفائه في "الناتو" كي يزيدوا نفقاتهم الدفاعية عنه.

سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكُّك "وارسو" كشفا عن أن "الناتو" لم تعد لديه مهمة محددة؛ ما حدا به إلى التوسع والانتشار أكثر كأنه يبحث عن وظائفَ جديدة، لكن رغم ذلك فإن انغماسه في محاولة حل كثير من الأزمات كشفت عن هشاشته وضعفه وما أوكرانيا عنا ببعيد، وكذلك ما حدث سابقًا من الانسحابات العسكرية المتكررة والعجولة من العراق وأفغانستان وليبيا وغيرهم، فيما يبدو أنه لم يعد قادرًا على تنفيذ المهام الموكلة إليه؛ وبِناءً عليه تحول منذ نحو ستة أعوام إلى داعم للأمن الناعم كالتدريب والاستشارات والاستخبارات.

خذلان كييف

خذلان حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا شيء وارد جدًّا خاصةً مع عدم ضمها إليه حتى الآن؛ ما أسقط ورقةَ التوت الأخيرة عن الحلف وكشف مدى ضعفه في الالتزام بالدفاع عن حلفائه الحاليين والمستقبليين (حتى لو لم يكونوا أعضاءً فيه)، وما حدث في أوكرانيا وموقف الحلف منه يعد السيناريو الطبيعي للعلاقة بين روسيا و"الناتو"؛ فكلا الطرفان ينظران إلى الأراضي الأوكرانية على أنها منطقة عازلة بينهما. وربما يقبل حلف "الناتو" بالضمانات الأمنية التي تريدها موسكو من أجل إنهاء الحرب الدائرة الآن، لا سيما مع استمرار "كييف" في المطالبة بالانضمام له حتى قُبيل غزوها بساعات.

وبالنظر إلى مستقبل "الناتو" نرى أنه في أمس الحاجة إلى إعادة تقييم استراتيجياته وقدراته باستمرار خصوصًا في ظل تنامي التهديدات الأمنية، ومحاولة إيجاد سبل جديدة لرأب الصداع المتنامي بالتزامن مع تصاعد قوة الدب الروسي، والاتفاق فيما بين أعضائه على آلية للتعامل مع استراتيجية وسياسة موسكو المعلنة فيما يتعلق بمحاولات استعادتها روسيا العظمى.

وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد كشف الغزو الروسي تعددَ الأقطاب في العالم الحالي، وأنه لم يعد عالم القطب الأوحد حيث الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل توجد الآن روسيا القوية، بجانب القوى الأخرى الصاعدة بقوة وشراسة كالصين وكوريا الشمالية والهند؛ ما يحتِّم على "الناتو" النظر للأمور بشيء من الواقعية وإعادة ترتيب الأوراق.