كيف أيقظ بوتين "عملاق أوروبا من ثباته العميق"؟

  • 2859
جندي ألماني

ألمانيا ذلك العملاق النائم الذي لطالما هدد العالم بأسره، وبث فيه الذعر لسنوات، واحتل كل أوروبا تقريبًا؛ خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة، بعدما قادها العدوان لأن تجعل من قادة العالم أعداءً لها، حبث بدأت الحرب العالمية الثانية عام 1939، وفي عام 1941 كانت كلًا من روسيا وأمريكا وبريطانيا والصين بالإضافة لبولندا وفرنسا حلفاء في مواجهة دول المحور وهي ألمانيا وإيطاليا واليابان، ولذا كان من المنطقي أن تكون نهاية الحرب حتمية، وبالفعل هزم الحلفاء قوات المحور وعلى رأسهم ألمانيا واليابان، وانتهت الحرب بالقصف الأمريكي النووي على هيروشيما ونجازاكي وسحق الألمان ونهاية الحرب عام 1945.

وخرجت برلين من الحرب فائزة بكره الجميع وأصابع اتهامات العالم موجهة إليهم بأنهم مسئولين عن ملايين القتلى والمصابين، وظلت ألمانيا حتى اليوم تدفع ضريبة انتهاكات وإرهاب أدولف هتلر، واستمرت الحكومات الألمانية المتتابعة تسعى لتطور اقتصادي واجتماعي وسياسي وعقد علاقات صداقة مع الجميع، وسعي حثيث لتحسين صورة ألمانيا الجديدة أمام العالم، واتخذت ألمانيا من العزلة العسكريًة خيارًا لإصلاح ما أتلفته السياسة النازية.

ألمانيا منذ عام 1945، وهي تطور وترتقي في كافة المجالات وعلى رأسها الاقتصاد، حتى باتت أكبر وأقوى اقتصاد في أوروبا، وأضحت الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحقق فائضًا في الميزانية كل عام بمليارات الدولارات، وفي نفس الوقت كانت بعيدة عن الصراعات وهذا حتى حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكان واضحًا رفض ميركل لأي طلبات أمريكية بقطع خط الغاز مع روسيا-السيل الشمالي 2-، وأكدت ميركل وقتها أنها لن تعرض احتياجات شعبها من الغاز لأي مخاطر، إلا أن المستشار الألماني أولاف شولتز، يتخذ سياسة مغايرة ويتصدر المشهد الأوروبي في الأزمة الأوكرانية، بداية من التوسط للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل بداية الأزمة، وحتى إلان مواقف صريحة برفض سياسة بوتين وإعلان دعم أوكرانيا بالأسلحة، كما خصص شولتز 100 مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة، وهو أكبر دعم للقوات المسلحة الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي تأثر بالغ بالحرب الروسية على أوكرانيا، قال شولتز بنبرة حاسمة أمام نواب البوندستاغ (البرلمان) أمس الأحد: "سنؤسس صندوقًا خاصًا للجيش الألماني لاستخدامه للاستثمارات في مجال الدفاع. من الواضح أننا بحاجة إلى زيادة الاستثمار بشكل كبير في أمن بلدنا؛ من أجل ضمان حريتنا وديمقراطيتنا"، ودعا المستشار الألماني لضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور، مع التنصيص على زيادة الإنفاق الدفاعي بأكثر من 2 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، بدلًا من حوالي 1.5 في المئة"، ويعد إعلان شولتز الأحدث في سلسلة من التحولات الرئيسية في السياسة الدفاعية والأمنية الألمانية، وهذا يعني أن بوتين دفع أكبر قوة اقتصادية في أوروبا إلى تغيير سياستها العسكرية.

وبالرغم من أن واشنطن وحكومات أوروبا لطالما طالبوا برلين بزيادة الإنفاق العسكري على جيشها ورفع ميزانيتها العسكرية، لاسيما أنها أقوى اقتصاد في القارة الأوروبية، إلا أن ألمانيا كانت تقاوم تلك الضغوط، وتشكل تلك الخطوة علامة فارقة بالنسبة لألمانيا، التي تعرضت لانتقادات من الولايات المتحدة وحلفاء آخرين في الناتو؛ لعدم الاستثمار بشكل كافٍ في ميزانيتها الدفاعية.

مما يعني أن الهجوم الروسي على أوكرانيا كان له تأثير واضح على صُنّاع القرار في برلين، الذين وضعوا أيديهم على القصور الذي تسرب على مدار السنوات الماضية لكل مفاصل القوات المسلحة الألمانية، سواء فيما يتعلق بالجاهزية القتالية للوحدات العسكرية الألمانية، أو فيما يخص الموارد المالية واللوجستية المتوفرة لهذه الوحدات، وبدا هذا القصور واضحًا للعيان بعد أن وجد الوسط السياسي الألماني نفسه أمام مساهمة "ضعيفة" من جانب برلين، في تعزيز دفاعات حلف الناتو في شرق أوروبا، وعدم مقدرة الحكومة الألمانية على تقديم مساعدات عسكرية نوعية وفعالة للجيش الأوكراني في أزمته الأخيرة، وفق المراقبين.

كما أن الأزمة أوضحت أن السياسة الألمانية نحو العزلة والاعتماد على حماية الناتو رغم قدراتها المادية التي تستطيع بناء جيش أكبر من الناتو؛ كانت سياسة خاطئة، وأنه آن الأوان لبناء جيش ألماني لا يحتاج لأحد، أو فقط لمجرد امتلاكه القدرات النووية.

جيش ألمانيا

تأسس الجيش الألماني منتصف عام 1955، بعد سماح الحلفاء لألمانيا بتسليح نفسها مجددًا، وذلك بعدما دخل الاستسلام غير المشروط للجيش الألماني حيز التنفيذ في مايو عام 1945، عبر وثيقة قانونية تم بموجبها إعلان الهدنة وإنهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وكانت أول مهمة عسكرية دولية تشترك فيها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، عام 1993 حينما منحت الحكومة الاتحادية تفويضاً للجيش الألماني للمشاركة في مهام قوات الناتو في يوغسلافيا السابقة.

ويقدر عدد قوات الجيش الألماني بحوالي 185 ألف فرد دون الاحتياط، وينقسم إلى 5 فرق قتالية، وبحسب تصنيف "جلوبال فاير باور" لأقوى جيوش العالم، يحتل الجيش الألماني المرتبة 16 بين 140 جيشاً ضمهم التصنيف، ويمتلك الجيش الألماني 617 طائرة متعددة المهام، و266 دبابة و9 آلاف و217 مدرعة، ويتكون أسطوله الحربي من 80 وحدة بحرية.

ولعقود كان الجيش الالماني عرضة للانتقاد للحالة المزرية لأصوله العسكرية وعدد القوات العاملة وحالة الابتكار التكنولوجي لديه، حيث ألمانيا واحدة من أبرز الدول في الصناعات العسكرية والدفاعية، وتمتلك القدرات النووية التي ورثتها عن ألمانيا هتلر، ورغم كل ذلك جيشها ضعيف، وتعتمد بشكل كبير على وجود القوات الأمريكية، وكذلك المعدات التقنية الأمريكية المنتشرة على أراضيها، ولذلك فإن قرار استثمار 100 مليار يورو سوف يجعل من الميزانية الدفاعية الألمانية تتخطى نسبة 2 في المئة من الناتج المحلي حسب ما اتفقت دول الناتو بحلول 2024، ويدفعها لتطوير أسلحتها الرئيسية، وشراء معدات أكثر حداثة.

وبحسب رويترز، فإن ألمانيا قد تشتري طائرات مقاتلة أمريكية من طراز F-35، لتحل محل الطائرة متعددة المهام "تورنادو" بعد تقادمها في دور المشاركة النووية، ومن المنتظر أن يبنى الجيل القادم من الطائرات المقاتلة والدبابات في أوروبا بالاشتراك مع شركاء أوروبيين، لا سيما مع فرنسا، وشددت رويترز على تنامي الشعور الداخلي بضعف المشاركة في الناتو وانخفاض القدرات التي تمتلكها القوات المسلحة الألمانية، تعد سببًا أساسيًا في ذلك القرار.

وأوضحت الأزمة الأوكرانية رغم قسوتها على الشعب الأوكراني كثير من الحقائق التي غابت عن الرأي العام العالمي، وأبرزها أن ما يحدث في أوكرانيا امتداد لحرب باردة بين القطبين الأمريكي والروسي لم تنهي من الأساس ووقع الشعب الأوكراني كأحد ضحاياها، كما أبرزت الأزمة انصياع الحكومة الأوكرانية للسياسات الأمريكية بشكل أضر بالمصالح الأوكرانية، كما ظهر جليًا أن روسيا بوتين تسير في اتجاه لملمة ما سقط من إمبراطورية الدب السوفيتي المنهار، وما ينبغي أن تلتفت إليه أوروبا كما انتبهت ألمانيا، أنهم عليهم أن يزيدوا من قوتهم العسكرية ويرفعوا من ميزانيتهم ولا يستكينوا لحماية الناتو فقط.

ويبقى قرار ألمانيا برفع الميزانية العسكرية الدفاعية، وعزوف عن السياسة القديم أحد نتائج الهجوم الروسي على أوكرانيا، وكيف تبين لبرلين أن سياستها الخاطئة قديمًا جعلتها اليوم لا تقوى على دعم الناتو بجنود وأسلحة كافية كغيرهم من الأوروبيون، ولولا العزلة العسكرية، لكان الجيش الألماني اليوم ينازع واشنطن وموسكو وبكين صدارة جيوش العالم.