من يربح الصراع على أفريقيا الصين أم أوروبا؟

بكِّين دخلت القارة من باب الاقتصاد.. وصارت الدائن الأول لها

  • 100
صورة أرشيفية معبرة

لا تقف الصين عن السعي إلى الصدارة وإيجاد موطء قدم لها في أي مكان أو مجال تستطيع الوصول إليه، ولا تغيب القارة السمراء عن أعينها أبدًا؛ فمنذ عقود وهي تتوغل رويدًا رويدًا داخل أفريقيا حتى صارت خلال الـ12 الماضية وحتى الآن الشريك التجاري الأول للقارة.

صراع شديد

لم تتأثر استثمارات بكِّين في أفريقيا بأي أزمة عانى منها العالم وقارة أفريقيا وكان آخرها جائحة "كورونا"، بل إن الصين استثمرت خلال هذه الأزمة وتحولت من أول شريك تجاري إلى أول دائن لأفريقيا، وأحكمت قبضتها على البلدان التي تعاني من أزمات مالية من خلال قروضها وديونها لديهم. إضافة إلى تنامي التجارة الثنائية وحجم الاستثمارات.

هذا التوجه دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى تحفيز مؤسساتها المختلفة على العودة إلى أفريقيا التي غزاها هذا العملاق الآسيوي الكبير. وفي الوقت نفسه أعلن الاتحاد الأوروبي –خلال قمته مع الصين التي عُقدت يوم الجمعة الماضي- تسخير رؤوس أموال ضخمة لكي يستثمرها في قارة أفريقيا من الآن وحتى سبع سنوات مقبلة. واختلفت هذه القمة عن سابقاتها من ناحية تركيزها على موضوعات الاستثمار وعالم المال، وتطرقت كذلك إلى الملفات الثقافية، والملفات المتعلقة بمجالات الطاقة.

وقد تركت سياسة أوروبا سابقًا مساحات تتحرك من خلالها الصين في الترويج لسلعها وبيعها وزيادة استثماراتها، لكن لم يدر بخلدها أن بكِّين ستنمو لتلك الدرجة وتتحول إلى مارد عملاق تَخشى منه، وقد اعتمدت بكِّين على ثقلها الاقتصادي فقط دون التدخل المباشر في أفريقيا، وتبع ذلك تدخل عسكري متوارٍ من خلال اتجاهها لإنشاء قواعد عسكرية، حتى وصل الأمر إلى أن الصين في طريقها نحو الهيمنة السياسية على أفريقيا.

استثمارات هائلة

بلغت قيمة التجارة الثنائية بين الصين وأفريقيا في عام 2020م نحو 187 مليار دولار، ثم ارتفع حجم التجارة بنسبة 40.5% وسجل نموًّا قويًّا ليصل إلى 139.1 مليار دولار خلالالأشهر السبعة الأولى من العام الماضي، وهو رقم قياسي كبير بِناءً على أساس سنوي. وتوسعت استثمارات الصين في أفريقيا خلال الفترة الماضية رغم التراجع في الاقتصاد والتجارة العالميين بسبب جائحة "كوفيد-19"؛ فقد بلغت قيمة الاستثمار الصيني في أفريقيا خلال عام 2020م 2.96 مليار دولار؛ أي بزيادة 9.5% على أساس سنوي، ووصلت قيمة الاستثمار المباشر –خلال العام ذاته- غير المالي إلى 2.66 مليار دولار.

وارتفع حجم الاستثمار الصيني بأكثر من الضعفين في مجالات الخدمات ضمن القطاعات الفرعية كالبحث العلمي والتكنولوجيا والنقل والتخزين و البريد. وخلال العام الماضي أنشئت 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة أفريقية، وجذبت هذه المناطق 623 شركة باستثمارات إجمالية قُدرت بنحو  7.35 مليار دولار، أوجدت أكثر من 46 ألف فرصة عمل لشباب الأفريقي، وبلغت القيمة التعاقدية لمشروعات البنية التحتية الصينية في أفريقيا إلى 67.9 مليار دولار.

ديون كبيرة

اضطرت الدول الأفريقية الفقيرة التي اجتاحها وباء "كورونا" إلى الاختيار بين الاستمرار في تسديد الديون أو توجيه مواردها نحو إنقاذ أرواح مواطنيها أو تحسين سبل عيشهم. وفي حال اختيار تنمية الخدمات الصحية كانت بكِّين -في الغالب- الجهةَ التي يتحتم عليهم التعامل معها؛ حتى أضحت أكبر مقرض للقارة السمراء على مستوى العالم. وقد استفادت الدول الأفريقية من هذه الديون مؤقتًا لكنها وقعت في فخها؛ فعلى سبيل المثال كان تعليق سداد أقساط الديون مهمًّا لتمكين إثيوبيا من التعامل مع جائحة "كورونا"، وقد وفر ذلك لأديس أبابا 1.7 مليار دولار خلال الفترة من شهر أبريل عام 2020م وحتى نهاية العام نفسه، وحوالي 3.5 مليار دولار إذا مُدت هذه الفترة حتى نهاية العام الجاري.

واستفادت أنجولا من تعليق سداد الديون، وكذلك تشاد، وجمهورية الكونغو، وموريتانيا، والسودان. وتعرضت أنجولا لضغوط مالية كبيرة نتيجة انهيار أسعار السلع الأساسية، وعقدت اتفاقية مع ثلاثة من دائنيها الرئيسيين -منهم "بنك التنمية الصيني" الذي تدين له بحوالي 14.5 مليار دولار، و"بنك التصدير والاستيراد الصيني" الذي تدين له بـ 5 مليارات دولار- تنص على تخفيف ديونها في السنوات الثلاث التالية.

وقد تخلفت زامبيا عن سداد قسط فائدة بقيمة 42.5 مليون دولار مستحق على سندات مقومة بالدولار، وكانت في طريقها نحو التخلف أيضًا عن سداد ديونها الخارجية، لكن نفس الدائنين الصينيين خففوا  تلك الديون؛ حيث أجل "بنك التنمية الصيني" سداد أقساط الفائدة وأصل الدين لمدة 6 أشهر حتى شهر أبريل من العام الماضي، وعـلَّق "بنك التصدير والاستيراد الصيني" جميع أقساط الدين على حافظته من القروض السيادية التي وصلت إلى 110 ملايين دولار.

وضمن إطار مبادرة "تعليق سداد أقساط الديون" التي أطلقتها "مجموعة العشرين"، والتي عن طريقها تستطيع 73 دولة من أفقر بلدان العالم طلب مهلة مؤقتة لسداد الديون الثنائية، حدث اتفاق مع "بنك التصدير والاستيراد الصيني"؛ فقد تقدمت 31 دولة أفريقية بطلبات تعليق سداد أقساط ديونها. ويعود حوالي 70%من أقساط الديون التي شملتها تلك المبادرة -وقيمتها نحو 8 مليارات دولار- إلى بكِّين، التي تمتلك 62% من الديون الثنائية الرسمية المستحقة على قارتنا السمراء.

معضلة القروض

الصين في الوقت الحالي تعد أكبر مقرض لقارة أفريقيا، وستدفع 68 دولة حوالي 52.8 مليار دولار أمريكي خلال هذا العام كتكاليف ديون، وشملت قروضها عدة دول، مثل: أنجولا 21.5 مليار دولار في 2017، وإثيوبيا 13.7 مليار دولار، وكينيا 9.8 مليار دولار، وجمهورية الكونغو 7.42 مليار دولار، وزامبيا 6.38 مليار دولار، والكاميرون 5.57 مليار دولار، ونيجيريا  3.121 مليار دولار؛ وتوجد أزمة في سداد هذه الديون مع امتلاك الصين نحو 90% من ديون إثيوبيا الثنائية الجديدة منذ عام 2015م، و72%من ديون كينيا الخارجية التي بلغت 50 مليار دولار، وعلى مدى السنوات القليلة المقبلة، ويُتوقع أن تدفع كينيا 60 مليار دولار لبنك الصين "إكسيم" وحده، وميناء "مومباسا" معرض للفقدان إذا تخلفت كينيا عن سداد القرض. وتواجه جيبوتي –التي تستضيف أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج- مخاطر كبيرة من الديون المحتملة نتيجة الانخراط في مشروعات البنية التحتية ضمن إطار مبادرة "الحزام والطريق".

وقد استُجوب وزير المالية الأوغندي "ماتيا كاسايجا" في البرلمان خلال شهر أكتوبر الماضي، بسبب شروط قرض صيني بقيمة 200 مليون دولار لتوسيع مطار "عنتيبي" الذي يخدم العاصمة كمبالا، وهذا المطار معرض للفقدان كذلك إذا لم تُسدد تلك الديون.

وهنا نقطة مهمة ينبغي الانتباه لها، وهي أن سبب اتجاه الدول الأفريقية إلى الاستدانة من الصين، أن بكِّينلا تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية لدول المنطقة، ونظرًا لعدم اهتمامها المباشر بالتعقيدات والصراعات السياسية الداخلية؛ فقد أثمر ذلك عن حضور اقتصادي هائل لبكِّين داخل 20 دولة أفريقية؛ أي ما يعادل نحو نصف مساحة القارة.

وقد بلغت الديون الأفريقية الخارجية 400 مليار دولار، ثلثها تقريبًا مستحق للصين وحدها؛ أي ما يعادل 150 مليار دولار، جرى استدانتها كلها خلال العقدين الأخيرين فقط.

محاولات أوروبية وهيمنة صينية

في الوقت ذاته تسعى أوروبا لاستعادة موقعهاومكانتها داخل قارة أفريقيا بعدما هيمنت الصين عليها في العقدين الماضيين؛ حيث زاد توغل بكِّين في أفريقيا بالتزامن مع تراجع أوروبا؛ وذلك بسبب عدة عوامل أهمها أن الدول الأوروبية لم تبنِ علاقات شراكة حقيقية مع الدول الأفريقية تضمن تبادلًا تجاريًّا مستمرًّا، ولم تستثمر في تنمية البنى التحتية لدول أفريقيا، على عكس ما فعلت الصين.

وقد اختلفت استراتيجية الصين للتوغل داخل القارة عن سياسة أوروبا الاقتصادية؛ ما رجح الكفة لمصلحتها، فقد بلغ حجم استثمارات بكِّين في البنية التحتية لبلدان أفريقيا الفقيرة مئات مليارات الدولارات، بجانب تنفيذها مشروعات تنموية تخدم شعوب القارة، جرى التركيز عليها من خلال "منتدى التعاون الصيني الأفريقي" والقمم الأفريقية التي نظمتها بكِّين؛ ما شجع الدول الأفريقية وفتح شهيتها على المشروعات الصينية ومن ثَمَّ أبوابها أمام استثمارات بكِّين.

ودخلت الصين إلى أفريقيا عبر بوابة الاقتصاد عالم والمال، عكس ما فعلته الدول الأوروبية التي دخلت من باب محاربة التطرف أو دعم الفئات المضطهدة؛ وبِناءً عليه تورطت في صراعات ونزاعات لا علاقة لها بها؛ ما أفقدها حب الشعوب الأفريقية لوجودها وزعزع ثقتهم بها. بكِّين سوف تستثمر تلك الديون في تلبية مصالحها وتحقيق طموحاتها داخل القارة الأفريقية، وستسعى للسيطرة على مفاصل أفريقيا والهيمنة السياسية عليها من خلال تطويق أعناق بلدانها بحبل الديون.