هل غيرت الحرب الروسية الأوكرانية النظام العالمي؟

  • 54
الفتح - الحرب الروسية الأوكرانية

اقتربت المدة من أربعة أشهر منذ بدء الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا ولم تتضح حتى الآن معالم النظام العالمي فيما بعد الحرب، لا سيما في ظل عدم إعلان موسكو عن أهدافها الحقيقية من تلك الحرب، وأن كل ما يُثار مجرد تكهنات مخابراتية أمريكية وغربية، بجانب التضارب الكبير بين المعلومات التي يبثها الجهاز الإعلامي لطرفي الحرب، لا سيما ما يتعلق بوجود مبالغات غير مقبولة عقلًا من الجانب الأوكراني فيما يتعلق بالخسائر الروسية.

واقعٌ عملي

التاريخ يعلمنا درسًا لا ينبغي نسيانه ألا وهو الركون فقط للمعلومات الحقيقية على أرض الواقع، بعيدًا عن العواطف أو التهويلات الإعلامية لأي طرف، فمنذ بدء الهجوم العسكري عمدت روسيا إلى استهداف مساحات كبيرة من أوكرانيا، بجانب فرضها الحصار على عدة مناطق وقصف كييف العاصمة، وبعد مرور فترة من الزمن دفعت قواتها تجاه شرق البلاد وجنوبها للتوغل والانتشار فيها؛ ما بدا أنه محاولة روسية لتدمير القدرات الاقتصادية والعسكرية لأوكرانيا من أجل تعجيزها عن المقاومةالجادة. وبعد السيطرة على ميناء ماريوبول تتقدم القوات الروسية ببطء وحذر كنوع من الحفاظ على الأرواح البشرية بدليل استسلام نحو 1000 جندي أوكراني بعد مقاومة شديدة وطويلة في تلك المدينة، وعدم رغبة موسكو في قتل هذا العدد الكبير من الجنود وواصلت ضغطها وحصارها حتى أعلنوا استسلامهم. وتتقدم القوات الروسية لاستكمال السيطرة على هذه المناطق الشرقية والجنوبية، وقد نجحت في ذلك بالفعل لا سيما عقب سقوط عدة مدن ومناطق لدرجة أنها اقتربت من جعل أوكرانيا دولة حبيسة.

سلاح الاقتصاد

وعلى الجانب الآخر، سعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من الغرب إلى فرض عقوبات اقتصادية قاسية وخانقة على روسيا، كنوع من الترهيب واستغلال الموقف لصالحهم من أجل إضعافها اقتصاديًّا واستنزافها عسكريًّا في أوكرانيا؛ حتى تضعف عن مقاومتهم فيما بعد وتخسر سيطرتها وهيمنتها التي بدأت تستعيدهما منذ سنوات وبقوة على الساحة الدولية. تلك العقوبات أوجعت موسكو في البداية لكنها تماسكت بعد قليل وقوي اقتصادها خاصة بعدما حددت التعامل بعملتها المحلية "الروبل"، الذي شهد تحسنًا تدريجيًّا ملحوظًا في مقابل الدولار الأمريكي العملة الرسمية لتلك التعاملات سابقًا، ليس ذلك فحسب بل ظهرت آثار تضخمية وضغوط اقتصادية شديدة على الدول الغربية المؤيدة لأمريكا لا سيما فيما يتعلق بأزمة صادرات النفط والغاز الروسيَّين.

تغيير النظام العالمي

لكن هل سعت موسكو بالفعل وعن عمد إلى تغيير النظام العالمي من خلال تلك الحرب؛ بحيث يصير نظامًا متعدد الأقطاب بدلًا القطب الواحد؟ لكن مع قليل من التأمل يبدو  أن القطبية الواحدة لم تكن مسيطرة منذ سنوات؛ فقد ضعفت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في الكثير من المناطق على مستوى العالم حتى قبل هذه الحرب الحالية. هيمنة أمريكا زادت بالفعل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق لكنها لم تدم طويلًا، وظهرت قمة هذا الانفراد والهيمنة الأمريكية خلال الفترة ما بين حرب تحرير الكويت عام 1991م وحتى حرب غزو العراق بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل عام 2003م؛ وهنا نقطة مهمة ألا وهي رفض المجتمع الدولي لهذا الغزو حينذاك لكن دون قدرته على منعه؛ مما قد يعد مؤشرًا على حدوث تغير بطيئ وتدريجي مستمر منذ ذلك الحين لإنهاء السيطرة الأمريكية خاصة بعد بيان كذبها فيما يخص امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل، حتى صار الوضع إلى ما هو عليه الآن من استمرار وجود واشنطن في مركز الصدارة العالمي لكن دون هيمنة حقيقية وفعلية على النظام الدولي، ولا أدل على ذلك من تلك الحرب الدائرة في أوكرانيا التي لم تستطع منعها أو حتى إيقافها رغم مرور حوالي أربعة أشهر على بدايتها، وتراجع نفوذها المستمر في مقابل صعود متواصل لموسكو وبكِّين، وبدا ذلك جليًّا عن طريق التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية منذ عام 2015م، وكذلك الصعود القوي للاقتصاد الصيني حتى غدا ثاني اقوى اقتصاد على مستوى العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، ليس ذلك فحسب بل صعدت بكِّين في جميع المجالات خاصةً ما يتعلق بالتكنولوجيا والمعدات العسكرية؛ ما أضحى يهدد النفوذ الأمريكي. لكن رغم لك تظل أمريكا حتى الآن أقوى دولة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية.

لذلك فالتغير العالمي يحدث منذ سنوات قبل الحرب الروسية الأوكرانية، ويبدو أن تلك الحرب عجلت نوعا ما –أو على الأقل ستسرع- من تلك التحولات والتغيرات العالمية. لكن من ناحية أخرى فقد كشفت تلك الحرب هيمنة الجانب الأمريكي حتى هذه اللحة على وسائل الإعلام المختلفة لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي التي روجت الرواية الأمريكية والغربية، في مقابل إسكات –أو إضعاف- الإعلام الروسي عن طريق قطع تلك الوسائل عنه.