"تصوير الجنة" خطر جديد يهدد عقيدة الإيمان بالغيب

  • 50
الفتح - العدد الورقي

- كيف يمكن تصوير السعادة التي تغمر أهل الجنة؟.. دعاة يحذرون من الرجم بالغيب وقصور المادية وأثرها المدمر



أثار تداول عدد من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي صورًا تحمل عنوان "الجنة بالذكاء الاصطناعي" جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بين مشتاق لرؤية الجنة ورؤية تفاصيلها، وبين رافض لها باعتبار أنها تصور فاسد عن الجنة وعن وصفها، وأنها خطوة على طريق هدم الإيمان بالغيب وحصره في ماديات قاصرة تضيّع هيبة الدين وعظمته وتخضعه للرجم بالغيب من العقل البشري القاصر، وثار تخوف بين المتابعين من الوقوع في فخ تصوير النبي -صلى الله عليه وسلم- بالذكاء الاصطناعي أو ما هو أعظم من ذلك، وتتحول الأداة إلى تكنولوجيا مُفسدة للفطرة السليمة.

ومن جهته، قال الداعية الإسلامي شريف طه: حقائق الجنة من الغيب الذي وإن كنا نعرف معناه إجمالا، إلا أننا لا نعرف حقيقته ولا كيفيته، مستشهدًا بالأدلة الشرعية الدالة على ذلك؛ إذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل في وصف الجنة أنه قال: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)"، وعن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "ليسَ في الجنةِ شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماءُ".

وأوضح أن هذا يبين أن حقائق الجنة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، كما قال ﴿فَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وَابتِغاءَ تَأويلِهِ وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرّاسِخونَ فِي العِلمِ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنا﴾، مشيرًا إلى أن حقائق الجنة من الغيب الذي وإن كنا نعرف معناه إجمالا، إلا أننا لا نعرف حقيقته ولا كيفيته.

وأكد "طه" أن ذلك كصفات الله تعالى، كالعلم والقدرة واليدين والوجه ونحوها من الصفات التي نعرف معناها إجمالا، ولكن لا نعرف حقيقتها، بل نجزم أنها لا تماثل ما في الواقع عندنا، وأضف لذلك أن في هذا الأمر -تصوير الجنة بالذكاء الاصطناعي- تهوينًا من نعيم الجنة، وقد يخرج في صورة لا تعجب البعض؛ فإن هذا من لوازم صنعة المخلوق، فتقل مكانة الجنة في النفوس، أو تعرض للسخرية من المنافقين.

وأكد الداعية الإسلامي وائل سرحان على أن من يقومون بتصوير الجنة بالذكاء الاصطناعي، هؤلاء طغت على تفكيرهم ومعتقداتهم النظرة المادية البحتة وهي أثر من آثار التغريب الذي انتشر في العالم كله، وأصاب أبناء المسلمين في القرن الأخير أو في القرنين الأخيرين، مشيرًا إلى أن هذه نظرة مادية بعيدة عن معتقدات وفكر المسلمين، ولا مكان لهذه النظرة ولا من ينظرون إلى الكون وإلى الحياة حتى الآخرة بنظرة مادية لا مكان للإيمان بالغيب في معتقداتهم وفي تصوراتهم ولا مكان كذلك للروح ولا للنفس في اعتقاداتهم أو تصوراتهم وأفكارهم.

وتابع "سرحان" في تصريحات خاصة لـ "الفتح": كل ما يرمون إليه ويشغل تفكيرهم ويحتل مكانة كبيرة في نفوسهم هو إشباع حاجات الجسد المادية والنظرة إلى المعتقدات أيضاً نظرة مادية، فإذا استطاعوا - ولن يستطيعوا- أن يصوروا ما في الجنة من ماديات، فأين هم من السعادة الغامرة التي يضفيها الله -سبحانه وتعالى- على أوليائه وعلى أحبابه في هذه الجنة؟ فليست كل السعادة سعادة مادية أو جسدية، وأين هم من هذه السعادة التي تغمرهم إذا رأوا ربهم -سبحانه وتعالى-، متسائلًا: كيف يصورون بذكائهم الاصطناعي هذه السعادة؟ هذه نقطة أن السعادة كلها ليست سعادة الجسد أو السعادة المادية.

وأضاف "سرحان": ثم أمر آخر وهو أن كل ما خطر على قلب إنسان وعلى قلب بشر مهما أوتي من ذكاء ومهما أوتي من عبقرية ومهما أوتي من قدرة على التصوير ومهما أوتي من قدر على رسم لوحة فنية كما يقولون، مهما أوتي من قدرات خارقة لن يستطيع أن يصف الجنة؛ لأنها فوق قدرات تخيل البشر، فكل ما فيها ما لا يخطر على قلب إنسان مهما يكن، فالجنة أفضل وهذا مصداق قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-:"وما خطر على قلب بشر"، فكل ما خطر على قلبك فالجنة أفضل منه، فكأن هؤلاء يعارضون حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولفت الداعية الإسلامي إلى أن هؤلاء عليهم أن يراجعوا وأن يراعوا في تصوراتهم وأفكارهم التي ينبغي أن تبنى على التصور والفكر الإسلامي الذي احتل الإيمان بالغيب فيه مكانة كبيرة وراعى الروح والنفس كما راعى الجسد، وراعى سعادة الروح والنفس كما راعى سعادة الجسد.

وفي السياق ذاته، انتقد يحيى الصافي، الداعية الإسلامي، الصور المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسمى "صور الجنة بالذكاء الاصطناعي"، قائلًا: من المعلوم أن نعيم الجنة وعذاب النار هو من الغيب الذي يجب على المسلم الإيمان به كما وصفه الله تعالى في كتابه، وعلى المؤمن بالغيب أن يقطع الطمع عن إدراك حقيقة هذا الغيب بصورة حسية مادية ملموسة يتخيلها ويصورها برسم أو ببرامج حاسوبية، كما أن ذكر الله -تعالى- لهذا الغيب ليس لكي يصوره الإنسان في برامج حاسوبية للذكاء الاصطناعي أو حتى رسمها باليد.

وأضاف "الصافي" -في تصريحات خاصة لـ "الفتح"-: أن ذكر الجنة ووصفها في الكتاب والسنة إنما هو لحمل النفس على الجد في طلبها وكذلك وصف النار إنما هو لحمل النفس على الهروب منها، مؤكدًا على أن عقيدة "الإيمان بالغيب" تتعارض مع فكرة قياس مجالات الغيب ماديًا؛ فقوامها الرئيسي ليس محض التصديق فقط، بل تصديق ماهيتها التي جاء بها النص من الكتاب والسنة.

وتابع: أن أحد أهم الفوارق بين لذّات الدنيا ونعيم الجنة، أن لذّات الدنيا متناهية مُدركة، بعكس الجنة؛ فلذّاتها غير متناهية، وهو ما يجعل الجنة أدعى لتحقيق سعادة لا تسعها الدنيا! وهي ليست سعادة محدودة بالمفهوم المادي المركزي الغربي، إنما سعادة متجددة ذات "طمأنينة" و"سكينة" غير محدودة، وهذا من طبيعة المفارقة بين الدنيا والآخرة، مشيرًا إلى أن لذّات الدنيا عصية على تحقيق ذلك النوع من السعادة؛ لأن الإنسان بطبيعته يسعى للحصول على الرغبات سعيًا حثيثًا، وبمجرد نيلها تفتر حرارته وتتلاشى رغبته فيها ويملها بالتدريج ويضجر منها.

واستكمل "الصافي": أن لذّات الجنة عصية أيضًا، يعني عصية على التصور؛ لأن الملل والضجر يُنتزعان من النفوس فيها بقدرة الله تعالى وتمام نعيمه على أهل الجنة ضمن سائر الصفات السلبية التي تُنتزع، مثل: الحزن والكآبة والسخط والكراهية، لقول الله تعالى: "ونزعنا ما في صُدورِهم من غل إخوانا على سررٍ متقابلين"، وقوله: “لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ ولا يمَسُّنا فيها لُغُوب” - أي تعب وكلل وفتور- لذلك قال عز وجل: “خالدين فيها لا يَبْغُونَ عنها حِوَلا”، لماذا؟؛ لأنه “فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفي لهم من قُرَّة أعين”، أي لا تبلغ نفسٌ من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم فيها.

وتساءل: فكيف يمكن تصورها؟! كيف يمكن أن نتصور “وظل ممدود” بمقاييسنا المادية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها”؟! أو تتصور “حورٌ مقصورات في الخيام” بمقاييس الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، عرضها ستون ميلًا، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين”؟! هل يمكن أن يُدرك أي عقل؛ هكذا ظل أو هكذا بيت؟!

وأكد الداعية الإسلامي على أن أجمع ما قيل في الجنة؛ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر”، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها”، فكيف ندرك حقيقة ما فيها ونصوره في الدنيا، مشيرًا إلى أن الخلاصة أن الاحتفاء بذلك وتناوله إنما هو هدم لعقيدة الإيمان بالغيب، وإسباغ حقيقتها على معنى مادي محسوس فتضعف تلك العقيدة في نفس المؤمن وحينها فلن يجدّ في طلب ما عند الله طالما أنه أدركه في الدنيا وظن أنه قد أحاط به علما.