ديننا والإنسانية

  • 132

أنزل الله سبحانه وتعالى إلينا منهجًا قرآنيًّا إلهيًّا، أعلى فيه قيمة الإنسان أيما علو؛ والناظر بعين الباحث المتأمل في هذا المنهج الرباني يجد أن الله تعالى وضع فيه قواعد كبرى أساسية تخبرنا كُنه هذا الإنسان وقيمته وكرامته عند خالقه؛ فقد أخبرنا في سورة البقرة أنه خليفة الله في أرضه، حيث قال تعالى: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة: 30)؛ وخليفة رب الأرض والسماوات لابد أن يكون مكرمًا؛ لذلك قال تعالى:"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء: 70)؛ ومن كرمه الله فلا يجوز أبدًا إهانته.

وقد أرسل الله تعالى لهذا الإنسان رسولًا كريمًا رؤوفًا رحيمًا من جنسه؛ يبلغه دين ربه الذي فرضه عليه، ويعلمه كل ما يحتويه؛ دين لا يفرق بين البشر على أساس الغِنى والفقر، أو اللون والجنس، أو القوة والضعف؛ فقد قال تعالى: " إنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " (الحجرات: 13)، دين يأخذ على يد الظالم، وينتصر للمظلوم، دين لا تضيع فيه الحقوق أبدًا إذا طُبق بفهم وصدق.

وقد نجح المصطفى – عليه السلام – في تحرير كل الضعفاء من أيدي الطغاة الظالمين، الذين كانوا يسلبونهم إنسانيتهم، وأقام دولة كانت ومازالت وستظل مثالًا لإنسانية ديننا الحنيف.

جاءت أفعال نبينا الكريم وكلماته خير شاهد ودليل على احترام إنسانيتنا وتكريمها؛ اسمع ما قاله عليه السلام في خطبة الوداع في جزء من الحديث الذي رواه البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ".

قرر ديننا الحنيف حرية الاعتقاد، قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256)، وفي فتح مكة لم يجبر نبينا الكريم – عليه السلام – قريشًا على اعتناق الإسلام، رغم تمكنه منهم، وانتصاره عليهم؛ بل سامحهم وأطلقهم أحرارًا قائلًا: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" .

كذلك قرر ديننا الحنيف حرية الرأي والفكر والتعبير، وما "أُحُدٌ" منا ببعيد؛ فقد نزل على مشورة الشباب الذين فضلوا الخروج لملاقاة كفار مكة؛ رغم مخالفتهم لرأيه عليه السلام، لكنه نزل على رغبتهم لأنهم كانوا أغلبية حينها.

كما ضمن لنا ديننا الحنيف حق الكفاية، ومعناه: أن يحصل كل فرد يعيش في كنف الدولة الإسلاميَّة على كفايته من مقوِّمات الحياة؛ بحيث يحيا حياة كريمة، ويتحقَّق له المستوى المعيشي اللائق، وهو يختلف عن حدِّ الكفاف الذي تحدَّثت عنه النُّظُم الوضعيَّة، والذي يعني الحدَّ الأدنى لمعيشة الإنسان.

وحقُّ الكفاية هذا يتحقَّق بالعمل، فإذا عجز الفرد فالزكاة تسدُّ هذا العجز، فإذا عجزت الزكاة عن سدِّ كفاية المحتاجين تأتى ميزانية الدولة لسداد هذه الكفاية؛ ولقد قال عليه السلام مؤكِّدًا هذا الحقِّ في الحديث الذي رواه البخاري، عن ابن عباس، عنه صلى الله عليه وسلم: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"؛ كما مدح الأشعريين لجميل صنعهم قائلًا، في الحديث المتفق عليه، عن أبي موسى الأشعري، عنه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ".

يا الله! "هم مني وأنا منهم".. بأبي أنت وأمي يا أكرم خلق الله!

وانظر هذا الموقف ترى عجبًا عجابًا؛ أخرج الإمام مسلم في "صحيحه"، كتاب: الصيد والذبائح، عن عبد الله بن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتِي بضّبٍّ محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلي الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل؛ فرفع رسول الله صلي الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أُعَاِفهِ"، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلي الله عليه وسلم ينظر. وأجمع المسلمون على أن الضب حلال أكله وليس بمكروه.

الله أكبر!! ما أكل، وما حرم، وما نهى!! بل اكتفى بكف يده عنه لما علم أنه سيأكل "ضَبٍّ" قائلًا: "لم يكن بأرض قومي" أي: لم يكن في طعام أهلي، ولم أتعود عليه؛ لذلك "أجدني أُعافه" يعني: لا أستسيغه، لا أميل إليه؛ مقررًا بذلك حقه وحقوقنا أجمعين الإنسانية في اختيار ما نريد أن نأكل ما دام حلالًا، وفي الوقت ذاته ترك حرية الاختيار لمن يريده؛ ودليل ذلك تركه لخالد وهو يراه؛ وعلماء الأصول والفقه يعلمون جيدًا، بل ويقررون: أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء دليل على حِلِّه.

إخواني الكرام، هذا ديننا نبعٌ فياضٌ عذبٌ رقراقٌ، وهذا نبي الرحمة والإنسانية، وتلك أفعاله وأقواله؛ فحري بنا أن ننهل من هذا النبع، ونضع عن كاهلنا كلَّ ما عداه...