التفاؤل

  • 166
شريف ربيع

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين، قائد الغرِّ المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تمر علينا جميعًا لحظات قاسية مريرة، وابتلاءات ربما تغير مسارات حياتنا كلها: إما للأفضل، وإما – عياذًا بالله- للأسوأ.. والذي يحدد العواقب والنتائج هو أنت!! نعم أنت حقًّا.. من خلال نظرتك للأمور وتعاملك معها: هل ستجرفك تيارات اليأس فتسقط في الهاوية؟! أم ستطير بك نفحات الأمل والتفاؤل فتحلق في أعلى عليين؟!

التفاؤل: هو ذاك الدواء السحري الذي يغير الموازين كلها؛ فهو عبارة عن ميل أو نزوع نحو النظر إلى الجانب الأفضل للأحداث أو الأحوال، وتوقع أفضل النتائج. وهو حسن الظن بالله، وتوقع الخير، وعدم السماح للمصائب والابتلاءات أن تدفعك إلى اليأس (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (يوسف: 87)، وأن ترى وتستشعر ما عند الله تعالى، وأن تكون واثقًا بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون غنيًّا بالله، وأن تنقل اهتماماتك إلى الدار الآخرة، وألا تعنيك الدنيا في شيء لا في قليل ولا كثير، وأن ترى الهدف البعيد، فإذا حالت عقبات أو مصاعب دونه وأنت مُصر عليه فأنت متفائل؛ وهو صفة العظماء، وصفة المؤمنين، وصفة الذين عرفوا وأيقنوا حقًّا أن الأمر كله بيد الله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود: 123)، وهو صفة الموحدين الموقنين.
فالتفاؤل إذن: توقع الخير، وحسن الظن المطلق بالله جل في علاه مدبر الأمر وخالق الكون كله، وأن تكون محصنًا دائمًا وأبدًا من أن تجرفك أمواج اليأس إلى حافة الهاوية.

والتفاؤل ثمرة الإيمان حقًّا، بل هو أساس الإيمان بأن الله في طرفة عين يقلب المعادلات كلها لو أردا، وما ذلك عليه بعزيز؛ بل كل ما في الأمر كلمة واحدة فقط "كن.. فيكون"، بيده موازين القوى، و يرجع إليه الأمر كله، وما أُمرنا أن نعبده سبحانه وتعالى إلا بعد أن طمأننا، فقال :
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود: 123)، وقال أيضًا: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف 54).
فنحن حينما نؤمن بأن الله وحده هو القوي، وأن أمره هو النافذ، وأن الأمر كله بيديه وحده فقط؛ نكون في معيته سبحانه وتعالى، وما ظنك بمن كان مع الله في شأنه كله؟! في حله وترحاله؟! في يقظته ومنامه؟! في فرحه وتَرَحه؟! في رضاه وسخطه؟! في غناه وفقره؟! في صحته وسقمه؟! في قوته وضعفه؟!

انظروا ماذا فعل نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، حينما كان معه رفيق دربه "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه، في هجرتهما معًا من مكة إلى المدينة؛ وكلنا نعلم أن قريشًا وضعت "100" ناقة جائزة لمن يأتي بمحمد عليه أفضل الصلاة والتسليم حيًّا أو ميتًّا. انظروا إلى هذا العرض المغري "100" ناقة!! هذه ثروة طائلة عند العرب آنذاك، تقوم من أجلها حروب لا يعلم نهايتها إلا خالق الأرض والسماوات؛ لذلك تهافت وتسابق الناس للفوز بهذه الجائزة الثمينة، ومحاولة الإتيان محمد عليه الصلاة والسلام حيًّا أو ميتًّا مهما تطلب الأمر ومهما كانت العواقب.

وهنا ظهر رجل يدعى "سراقة بن مالك"، ركب فرسه، وعَدَا إلى طريق الهجرة، ثم أدرك النبي عليه السلام؛ لكن النبي كان متفائلًا حق التفاؤل، موقنًا بنصر الله عز وجل يقينًا ثابتًا راسخًا كالجبال الشُّم الرواسي لا يتزحزح أبدًا، وقال له كلمة مازلنا نرددها حتى الآن، وربما لا نعي مدلولاتها، أو معانيها، أو أبعادها .. قال له: يا سراقة، كيف بك إذا لبست سوارَي كسرى؟!
الله أكبر!! ما هذا الشموخ واليقين؟! رجل مطارد، وقد أهدر دمه، ومِن مِن؟! من قومه وأهله وعشيرته؟! يعني: ليست له دية .. رجل على وشك القتل والهلاك المحقق، ورغم ذلك يعرض على سراقة "سوارَي كسرى".. كأن لسان حاله يقول: أنا سأصل آمنًا، وسأؤسس دولة، وسأحارب أقوى دولتين في العالم "الفرس والروم"، وسأهزمهما، وسأمتلك كنوزهما "كنوز كسرى وقيصر"، وستأتيني أنت يا سراقة إلى المدينة ذات يوم، وسأعطيك "سوارَي كسرى"!!
وانظروا أيضًا إلى نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، حينما جمع له فرعون جيشه كله؛ فأصبح البحر من أمامه وفرعون وجيشه من خلفه..

انظروا: هذا "هلاك محقق"؛ فئة قليلة وراءها جيش ضخم، كثير العدة والعتاد، جيش حاقد مبغض ناقم، وقائده طاغية جبار "يكفي أنه فرعون"، والبحر أمامها.. يعني بموازين البشر: نسبة النجاة لا تتعدى صفرًا .. (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 61، 62).
تأملوا معي ماذا قال موسى؟ ! قال: (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).. الله أكبر!!

إنه التفاؤل.. ذلك السلوك العجيب الذي يصنع به الرجال مجدهم، ويرفعون به رءوسهم، فهو نور وقت شدة الظلمات، ومخرج وقت اشتداد الأزمات، ومتنفس وقت ضيق الكربات، وفيه تُحل المشكلات، وتُفك المعضلات..

كيف ذلك؟! كيف يصل الإنسان لهذا المستوى من اليقين والتفاؤل؟!

طاعتنا لله وتعلقنا به ومراقبته في السر والعلن، هو ما يقودنا إلى ذلك.. فالعبرة إذن أن الله سبحانه وتعالى بيده قلوب العباد، يقلبها كيف يشاء، وعامةً وغالبًا يجعل هذا القلب متفائلًا إذا كان منيبًا له عز وجل، طائعًا له؛ ويجعله أيضًا متشائمًا إذا كان بعيدًا عنه عز وجل .نعوذ بالله من ذلك.