"الأزهر الشريف" قلعة الإسلام وحصنه الحصين

  • 534
أرشيفية

محمد علي قيد حركته.. وعبد الناصر جرده من نفوذه السياسي
إلغاء المحاكم الشرعية خطوة بارزة في تقليص دوره في الحياة العملية
علماؤه صدعوا بالحق في وجوه الطغاة.. ووقفوا في وجه السلاطين دفاعًا عن الشريعة الإسلامية


لم يكن الأزهر يومًا بعيدًا عن الحياة السياسية، إذ ظل عبر العصور قلعة الإسلام والممثل الأبرز للدعوة الإسلامية والعمل السياسي الإسلامي المستقل عن الحكام على مدار تاريخه، وحافظ على مكانته هذه في عصر المماليك والعثمانيين حتى بدايات عصر "محمد علي"، الذي بدأت في عهده عملية تقييد حركة الأزهر وتجريده من نفوذه السياسي على مراحل عدة، مرورًا بالجهود التي قام بها جمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو 1952م، وانتهاءً بما هو عليه الآن.

في البداية يقول الدكتور عبد الله بركات، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف وعميد كلية الدعوة الإسلامية الأسبق، أن مؤسسة الأزهر مؤسسة إسلامية دعوية تزود عن دين الله فتنفي عنه غلو الغالين وانتحال المبطلين وتهويل الجاهلين، وهو قادر بفضل الله ثم بجهد المخلصين من علمائه أن يقوم بذلك ولو أتيحت الفرصة وصلح حال المفسدين فإن الأمر لا يتوقف على البيان والتأليف وشتى صور البلاغ، وإنما يحتاج الأمر قبل ذلك وبعده إلى القدوة الصالحة والإخلاص التام وتربية الأجيال على ذات المباديء، ولكي يتم ذلك لابد من قيادة رشيدة ورؤية واضحة ومنهجية رشيدة وعطاء وجهد غير مقطوع ولا ممنوع.

وأكد أنه قدم ملفا لإصلاح الأزهر بعد ثورة 25 يناير مباشرة لرئاسة الوزراء ومجلس الشعب المنحل وشيوخ الأزهر المعتبرين ورئاسة الجمهورية ضم عينة لآراء 10 آلاف طالب من أبناء المؤسسة الأزهرية في كل قطاعاتها، وشمل الملف رؤية واضحة لإعادة هيكلة المؤسسة الأزهرية ووضع ضوابط ومعايير تقوم على الشفافية والعدل وفق آليات محددة.


وأضاف بركات أنه أنشأ "الجمعية الإسلامية العالمية لأبناء ومحبي الأزهر الشريف" والمشهرة برقم (8710/2012م)، تحت رئاسته ونيابة الدكتور أحمد عيسى المعصراوي، وأمانة الدكتور صبري عبد الرءوف والدكتور عبد الخالق حسن يوسف كأمين للصندوق، بالإضافة إلى نخبة من علماء الأزهر وأئمة الأوقاف والوعظ.


وأوضح أن رؤية الجمعية تدور حول تحقيق عالمية الأزهر ووسطيته وتحريره من التبعية السياسية وتجسيد رسالة الإسلام الخالدة وفق منهج النبوة وإحياء وتفعيل دور الوقف الإسلامي الذي كان محور عطاء الأزهر على مدى أكثر من ألف عام وبعودته يتمكن الأزهر من ريادته وتتحقق به.
وتابع: "كما تهدف الجمعية إلى رعاية الطلبة والطالبات غير المصريين وتأهيلهم ليعودوا إلى بلادهم سفراء للإسلام ورعاية الطلبة والطالبات المصريين المحتاجين والمغتربين والمتميزين وتقديم المشاركة الفعالة للمجتمع بإعداد الدراسات العلمية لحل المشكلات التعليمية والتربوية والمجتمعية وإقامة الدورات العلمية والمؤتمرات العالمية للتدريب والتأهيل والتطوير ودعم البحوث العلمية التي تعالج مشاكل المجتمع في مرحلتي الماجستير والدكتوراه واكتشاف الموهوبين والمتميزين ورعايتهم علميًا وماديًا في مراحل التعليم المختلفة وإحياء الوقف الإسلامي الخيري الداعم للنهضة الإيمانية".


ونوه إلى أنه رغم جميع المحاولات التي مارستها السلطة تجاه علماء الأزهر إلا أن علماءه صمدوا أمامها، وتصدوا للأنظمة الحاكمة، وصدعوا بالحق في وجوه الطغاة، وامتدد جهادهم إلى خارج القطر المصري.


من جهته قال جمال عيد، الباحث بالشبكة العربية لحقوق الإنسان: "إن الأزهر تم تجريده من دوره السياسي منذ عهد محمد علي، ولعلنا نتذكر ما فعله محمد علي ومن بعده خلفاؤه مع الأزهر الشريف"، موضحا أن ذلك النهج يمكن تلخصيه في كلمة الخديو عباس حلمي الذي قال فيها محددا دور الأزهر: "أول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر والشغب بعيدا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار لأنه مدرسة دينية قبل كل شيء، وأطلب منكم أيها العلماء أن تكونوا دائما بعيدين عن الشغب وأن تحثوا إخوانكم العلماء وكذلك الطلبة على ذلك، ومن يحاول بث الشغب بالأقوال أو بواسطة الجرائد والأخذ والرد فيها فلسوف يكون بعيدا عن الأزهر".

وأضاف: أن "الحكام حرصوا منذ نابليون حتى الآن على منع الأزهر من العمل السياسي, كما حرصوا في الوقت نفسه على توظيف الإسلام وعلماء الإسلام لتحقيق أهداف الحاكم السياسية كلما أمكن ذلك".


وأكد عيد أن جمال عبد الناصر لم يشذ عن ذلك النهج فاتخذ العديد من الخطوات للسيطرة على الأزهر وتوظيفه لصالح أهداف نظام ثورة يوليو1952م، حيث تضمن المرسوم بقانون رقم 180 لعام 1952م، أي في أول خمسة أشهر من حكم الثورة، وإلغاء الوقف الأهلي، كما كانت هناك إجراءات صحبت ذلك كله وأخرى تتابعت في السنوات التالية أدت فيما أدت إلى وضع الدولة يدها بشكل كامل على الأوقاف عبر وزارة الأوقاف التي سلمت هذه الأوقاف بشكل أو بآخر إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي، في الوقت الذي استثنيت فيه أوقاف غير المسلمين من أحكام هذه القوانين، حيث وضعت لها قوانين خاصة وتركت لكل كنيسة أوقافها في حدود مائتي فدان وما زاد على هذا كانت الدولة تأخذه وتدفع ثمنه بسعر السوق، وهو ما أدى في أواخر السبعينيات إلى مناداة عدد من الأصوات في مجلس الشعب بمساواة أوقاف المسلمين بأوقاف المسيحيين ثم كان إلغاء المحاكم الشرعية خطوة بارزة قامت بها ثورة يوليو لتقليص دور الأزهر في الحياة العملية للمصريين.


وأوضح الباحث بالشبكة العربية لحقوق الإنسان، أن أجهزة إعلام الدولة شنت حملة إعلامية صاحبت ذلك كله, ووصفته بأنه ثورة جديدة تجري داخل الأزهر وتقودها الدولة من أجل التجديد والتقدم لخدمة الأزهر والإسلام, وبلغ الأمر أن هاجم د. محمد البهي في جلسات مجلس الشعب (1961م) ما وصفه بأنه جو العداوة والجمود الذي يسود الأزهر وقال: "إن الثورة أعطت الإصلاح للأزهر لأن الشيوخ لم يريدوه", و كان محمد البهي أحد الموالين لعبد الناصر داخل الأزهر.


وتساءل عيد: كيف للأزهر بعد كل هذا أن يعصي لرئيس الجمهورية أمرا فضلا عن أن يعارضه؟، وما النتيجة العملية لهيمنة نظام ثورة يوليو على الأزهر؟.


وأضاف عيد: "وكانت النتيجة أن الأزهر لم تصدر من داخله أية مواقف أو تصريحات تعارض النظام الحاكم لا من قريب ولا بعيد, بل بالعكس وقف إلى جانب جمال عبد الناصر في كل مواقفه ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الفتوى التي أصدرها شيخ الأزهر يساند بها جمال عبد الناصر في صراعه مع محمد نجيب (الأهرام 17 فبراير 1954م), وأيضا التأييد الذي قدمه الأزهر لنظام حكم جمال عبدالناصر فيما يتعلق باتفاقية الجلاء (الأهرام 26 فبراير 1954م), وكذلك المساندة التي قدمها الأزهر لنظام حكم جمال عبد الناصر إثر الأزمة مع إسرائيل التي سبقت هزيمة يونيو1967م بإعلان تأييده لجمال عبدالناصر ومباركته لخطواته في صد عدوان الصهيونية والاستعمار (الأهرام 25 مايو 1967م ).


وتابع قائلاً: "استمر الأزهر على هذا النهج مع خلفاء جمال عبدالناصر، الرئيس السابق أنور السادات والمخلوع حسني مبارك, وقد أدى ذلك كله لإضعاف مكانة الأزهر في نفوس المسلمين وبالتالي تدهور دوره ومكانته كمرجعية عليا للدعوة الإسلامية والإفتاء لكل المسلمين, وبدأ الكثير من المسلمين يضعون ثقتهم بالعديد من الناشطين الذين ينتمون للحركات الإسلامية والذين يطلق عليهم الدعاة".


ونحاول خلال السطور التالية استعراض بعض من تلك المواقف المجيدة لعدد من أئمة الأزهر العظماء...

الشيخ الدرديرى ومراد بك

وإذا كنا قد رصدنا أن محاولات تحييد الأزهر عن الحياة السياسية بدأت في عهد محمد على، فعلينا أن نحلل مسلك هذا الوالي الذي اعتلى سدة الحكم في البلاد بناءً على حركة شعبية قادها شيوخ الأزهر وعلى رأسهم عمر مكرم، عندما وقفوا ومعهم شعب مصر في وجه الباب العالي وصمموا على تولي الضابط الألباني أمور البلاد، ويعد هذا الحادث وغيره مما رسخ في زهن محمد على، وجعله يتنكب السبل للتخلص من نفوذ شيوخ الأزهر وخطرهم على حكمه، مستحضرا وقوفهم في وجه كبار بكوات المماليك بما لهم من سطوة وشهوة للحكم.

ففى سنة ألف ومئتين من الهجرة وخلال حكم مراد بك وإبراهيم بك لمصر، نزل أحد بكوات المماليك ويسمى حسين بك بجنوده إلى منطقة الحسينية بالقاهرة واقتحموا بيت رجل يسمى أحمد سالم الجزار ونهبوا كل ما فى البيت من مال وأثاث، فخرج أهل الحسينية بالقاهرة متوجهين إلى الجامع الأزهر وهم يحملون الطبول وانضم إليهم كثير من الأهالى الذين كانوا يحملون "النبابيت" أى العصىّ الغليظة.


وفى الأزهر استصرخ هؤلاء الثائرون الشيخ أحمد الدرديرى فخرج إليهم وشجعهم ووعدهم بأنه معهم، ومما قاله لهم: "فى غد تجمع الأهالى من الأطراف وبولاق ومصر القديمة وأركب معهم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله"، ثم أشار عليهم بالانصراف.


ووصل خبر المظاهرة وحديث الشيخ إلى كبار البكوات فخافوا من تفاقم الأمور، فلما كان المغرب جاءه وفد يمثلهم برئاسة سليم أغا ومحمد كتخدا وإبراهيم بك، وجلسوا فى الغورية ثم ذهبوا إلى الشيخ الدرديري وتحدثوا إليه، وطلبوا منه قائمة بالأشياء التي تم نهبها لإعادتها.


وفى سنة 1191هـ، قام الأمير يوسف الكبير بمنع الأوقاف الخيرية عن طلبة العلم من المغاربة بالأزهر فرفعوا الشكوى إلى القاضى فحكم لهم بما يستحقون وكبر على الأمير أن يذعن للحكم فطالبه الشيخ الدرديري بالإذعان فأصر على الرفض وأهان رسول الشيخ إليه فكان ما تحدث به الجبرتى حين قال "ووصل الخبر إلى الشيخ الدرديرى وأهل الجامع فاجتمعوا فى صحنه وأبطلوا الدروس وأقفلوا باب الجامع وحبس المشايخ بالقبلة القديمة وكانت وقفة عصيبة رجع فيها الحق إلى أصحابه على أيدى شيوخ الأزهر فى مقدمتهم الأستاذ الدرديرى".


الشيخ عبد الله الشرقاوي والحملة الفرنسية

ومن بطولة الشيخ الدرديرى في وجه الطغيان الداخلي إلى عالم آخر تصدى لطغيان من نوع آخر، ونقصد به الشيخ الشرقاوي ونابليون بونابرت.

تولَّى الشيخ عبد الله الشرقاوي المشيخة في مرحلةٍ من أهم وأخطر مراحل التاريخ المصري، خاصة في ظل الاحتلال الفرنسي الذي سخط على الشيخ الشرقاوي وطنيته وثورته ضد الظلم.


فحينما دعا نابليون بونابرت أعضاء ديوان مجلس القاهرة إلى منزله ألبسهم علم فرنسا، ولكن الشيخ الشرقاوي طرح العلم أرضًا أثناء قيام نابليون بونابرت بوضعه على كتفه ثم تقدم الشيخ الشرقاوي بالاستقالة.


وعندما قام سليمان الحلبي بقتل القائد الفرنسي كليبر أحضر الفرنسيون الشيخ الشرقاوي، شيخ الأزهر، مع الشيخ العريشي، قاضي مصر، وتم حجزهما ساعات وطلب الفرنسيون منهما البحث عن الأزهريين الأربعة الذين ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق ولكنهما ثارا لذلك الموقف الفرنسي فحاول الفرنسيون الزج بالشيخ الشرقاوي في ذلك الأمر ولكنهم لم يستطيعوا.
وبعد خروج الفرنسيين من مصر لم يدخر الشيخ عبد الله الشرقاوي جهدا في ا

لدفاع عن وطنه ودحض أية مظلمة تصيب بني وطنه من قبل الأتراك، فعندما قام الوالي التركي خورشيد باشا بفرض ضريبة جديدة على أهالي القاهرة، وكان قد سبق أن طلب خورشيد من العلماء نفس المطلب فثار الشعب، فما كان من الزعماء إلا أن اجتمعوا في الثاني عشر من شهر صفر سنة 1220هـ في بيت القاضي وكان في مقدمتهم الشيخ الشرقاوي وقرروا اختصام خورشيد باشا الوالي التركي فعلم الشعب بذلك فاجتمع ما يقرب من 40 ألفًا وقاموا بمظاهرة ضد ظلم الأتراك، ثم طلب القاضي وكلاء الوالي وعندما حضروا إليه عقدوا المجلس وتم عرض مظالم الشعب ومطالبهم وهي:

1- عدم فرض أية ضريبة على القاهرة إلا بعد أن يقرها العلماء والأعيان.

2- جلاء الجنود عن القاهرة وانتقال حامية القاهرة إلى الجيزة.

3- عدم السماح بدخول أي جندي إلى مدينة القاهرة وهو مسلح.

وبعد أن وصلت رسالة القاضي إلى خورشيد باشا محملة بهذه المطالب شعر بخطورة موقفه فأرسل إلى العلماء لمقابلته ولكنهم رفضوا لأنهم فطنوا لمؤامرته ومكيدته، فما كان من خورشيد باشا إلا أن رفض مطالب الشعب فقام العلماء ووكلاء الشعب بالاجتماع في الثالث عشر من صفر 1220هـ في المحكمة واتفقوا مع الشعب على عزل خورشيد باشا واختيار محمد علي واليًا على مصر وأبلغوه بذلك فتردد محمد علي في أول الأمر ثم قبل بعد أن أوضح له الشيخ عبد الله الشرقاوي والسيد عمر مكرم أن هذه هى رغبة الشعب المصري ثم ألبساه خلعة الولاية.. وهذه هى أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل فيها الوالي ويختار بديله بقوة الشعب وإرادته.

الشيخ محمد مصطفى المراغى الإمام المجاهد

أما الشيخ محمد مصطفى المراغي فقد رفض اشتراك مصر في الحرب العالمية الثانية، سواء بالتحالف أو التعاون مع الإنجليز أو التعاون مع الألمان للتخلص من الاحتلال البريطانى، كما أعلن الإمام المراغى موقفه صراحة بقوله: "إن مصر لا ناقة لها ولا جمل فى هذه الحرب، وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتَّان إلى مصر بأية صلة".

وقد أحدثت كلمة الإمام المراغى ضجة كبيرة هزت الحكومة المصرية، وأقلقت الحكومة الإنجليزية، التى طلبت من الحكومة المصرية إصدار بيانا حول موقف الإمام المراغى باعتباره شيخ الأزهر من هذه الحرب ومن الحكومة الإنجليزية، فما كان من رئيس الوزراء المصرى فى ذلك الوقت حسين سرى باشا إلا أن قام بالاتصال بالشيخ المراغى، وخاطبه بلهجة حادة طالبًا منه أن يحيطه علمًا بأى شىء يريد أن يقوله فيما بعد حتى لا يتسبب فى إحراج الحكومة المصرية.

فردّ عليه الإمام المراغى قائلا: "أَمِثْلُكَ يهدِّد شيخ الأزهر؟ وشيخُ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئتُ لارتقيتُ منبر مسجد الحسين، وأثَرْتُ عليك الرأى العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب".

كما تزعم الإمام المراغى حملة لجمع التبرعات فى مصر لصالح المجاهدين فى السودان الذين يقاومون الاحتلال البريطانى، وبلغت حصيلة التبرعات ستة آلاف جنيه مصرى آنذاك، تقدر اليوم بنحو ستة ملايين جنيه مصرى.


الشيخ محمد الخضر حسين وصولات الحق

ونأتي إلى الشيخ محمد الخضر حسين الذي امتد جهاده إلى خارج القطر المصري، فعندما دعته سلطات الاحتلال الفرنسية في تونس كعضو في المحكمة المختلطة التي يكون فيها قضاة مسلمون وأجانب، رفض؛ لأن المحكمة تحكم بغير ما أنزل الله، ولأن المحكمة قائمة في ظل الاحتلال وستخدم مصالحه.

ومن مواقفه الجريئة أنه حاضر في تونس عن الحرية في الإسلام أثناء وجود الاحتلال الفرنسي فيها، وذلك في نادى قدماء مدرسة الصادقية الثانوية، قال فيها: "إن الأمة التي بُليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية"، ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد في شجاعة وجرأة، وقد تناقل الناس مضمون المحاضرة ووصلت أخبارها إلى الشام وغيرها.

وفي مصر كان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكف ذلك العضو عما نواه من تغيير حكم الله تعالى، فما أحوجنا اليوم لمثله.

وقد استقال من الأزهر عندما حدثت الحادثة العظمى بضم القضاء الشرعي إلى القضاء الأهلي الذي اخترعه الاحتلال الإنجليزي، وكان يرى، كما يرى كل مسلم، بوجوب حدوث العكس وهو إلغاء القضاء الأهلي وتثبيت الشرعي.


وكان يقول عن وظيفته في الأزهر قولا لابد أن يسمعه شيخ الأزهر اليوم وكل من يتولى هذه المهمة الثقيلة: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتّ أن يحصل للأزهر مزيد الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص"، وهي مقولة جليلة.

عبد الحليم محمود رجل المواقف الحازمة

أما الشيخ عبد الحليم محمود فقد تمكن خلال توليه مسئولية مشيخة الأزهر من أن يعيد للأزهر مكانته وهيبته، حيث استقال من منصبه بعد صدور قانون الأزهر الذي أصدره رئيس الجمهورية في يوليو 1974، الذي أفقده استقلاله، وقلص من سلطات شيخ الأزهر، بالإضافة للتوسع في التعليم المدني وإلغاء هيئة كبار العلماء، ولم يعد إلى منصبه إلا بعد إلغاء الرئيس أنور السادات القرار وصدرت اللائحة التنفيذية التي تخوِّل للأزهر شئونه، والتي جاء فيها "أن شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر". وخلال فترة رئاسته للأزهر عمل على التوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية، وأصبح للأزهر مواقف حاسمة في العديد من القضايا.

وواجه الشيخ عبد الحليم العديد من المواقف في حياته والتي نذكر منها عقب عودته من فرنسا وكان ذلك في رئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان الشيخ عبد الحليم يرتدي "البدلة" وفي أحد الخطابات التي ألقاها عبد الناصر قام بالتهكم على علماء الأزهر وقال عليهم " إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه"، وكانت الجملة السابقة بمثابة طعنة سددت للأزهر وعلمائه فغضب الشيخ عبد الحليم وشعر بالكثير من الإهانة التي وجهت للأزهر وعلمائه فقام بخلع "البدلة" وارتدى الزي الأزهري، وطالب زملاءه أن يحذو حذوه فاستجابوا له كنوع من التحدي ورفع هذه الإهانة عن الأزهر وعلمائه.


موقف آخر تصدى له الشيخ عبد الحليم وبقوة وكان ذلك عندما صدر قانون الأحوال الشخصية والذي روج له بعض المسئولين بتعديله والذي ينص على تقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات خلافا للشريعة الإسلامية، ووقف الشيخ بقوة في وجه هذا القانون قائلاً "لا قيود على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيود على التعدد إلا من ضمير المسلم {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} "آل عمران الآية 101"، وبالفعل تم إلغاء هذا القانون.


كما وقف ضد اقتراح البابا شنودة، بطريرك الأرثوذكس في مصر، بتأليف كتاب مشترك يجمع ما بين الدين الإسلامي والمسيحي من أجل تدريسه للطلاب في المدارس من منطلق تعميق الوحدة الوطنية، وهو الأمر الذي رفضه الشيخ مهددا بتقديم استقالته لو نفذ هذا.


كما كانت له مواقف مشهودة ضد قانون الخمر، حيث ندَّد به في كل مكان، وكذلك ضد الشيوعية والإلحاد، كما حاول إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء من الأكفاء ومِن حِسَان السمعة والعدول.


الشيخ جاد الحق.. صاحب المواقف العظام

ونختم بفضيلة الإمام الأكبر، الشيخ جاد الحق علي، وهو رجل المواقف العظام, فقد كانت له مواقف صريحة في الكثير من القضايا والمشكلات تمسك فيها برأي الإسلام، فعلى المستوى الدولي عندما نشبت حرب إبادة المسلمين في البوسنة كان أول من أعلن أن حرب الإبادة صليبية في المقام الأول وهدفها إبادة المسلمين في البوسنة.

ونجح من خلال منصبه كرئيس للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة وتأييده التام لحملة لجنة الإغاثة الإنسانية بنقابة الأطباء بمصر في أن يجمع ملايين الدولارات تم إرسالها للمجاهدين في البوسنة.

كما أرسل وفدا من علماء الأزهر الشريف برئاسة الشيخ جمال قطب، عضو البرلمان المصري وقتئذ، إلى البوسنة ليتفقد أحوال المسلمين هناك, ويحث المجاهدين من شعب البوسنة على مواصلة الجهاد وعدم التنازل عن شبر واحد من أراضيهم.

أيضًا رفض سياسة التطبيع مع إسرائيل ما استمرت في اغتصابها للأرض العربية, وكان مما قاله: "لا سلام مع المغتصبين اليهود, ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية", ورفض فضيلته زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتى بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م بين السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات والحكومة الصهيونية بقيادة إسحاق رابين, وأعلنها الإمام الراحل بعزة المؤمن الذي لا يخشي إلا الله.

وعلى المستوى المحلي تصدى الشيخ، رحمه الله، لـ"المؤتمر الدولي للسكان والتنمية" الذي عقد في القاهرة عام 1994، والذي تضمن إباحة الشذوذ الجنسي بين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة, وإباحة الزنا, وحمل الصغيرات العذارى والحفاظ على حملهن وإباحة إجهاض الزوجات الشرعيات الحرائر.

وفور علم الإمام الراحل بخيوط تلك المؤامرة الخبيثة، أمر فضيلته العلماء والمختصين داخل الأزهر الشريف وخارجه بقراءة الوثيقة جيدا, ودراسة ما فيها وتقديم تقارير عنها, ثم اجتمع فضيلته بمجمع البحوث الإسلامية عندما تأكد من صدق ما تناقلته وسائل الإعلام حول وثيقة المؤتمر لمناقشة وثيقة المؤتمر, وأصدر بيانا شديد اللهجة والصراحة يرفض وثيقة المؤتمر; لأنها تخالف شريعة الإسلام, وأكد البيان أن الإسلام لا يقر أية علاقة جنسية بغير طريق الزواج الشرعي الذي يقوم بين الرجل والمرأة, كما يحرم الإسلام الزنا واللواط والشذوذ, ويحرم إجهاض الجنين ولو عن طريق الزنا.

كما تصدى الإمام الراحل لقرار حسين كامل بهاء الدين، وزير التعليم المصري حينئذ، بمنع الحجاب في المدارس المصرية والابتدائية وضرورة موافقة ولي أمر الطالبة في المرحلة الإعدادية والثانوية على ارتداء ابنته الحجاب, وأصدرت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الإمام الراحل بيانا أعلنت فيه أن القرار الوزاري يخالف الشريعة الإسلامية ونصوص الدستور, واستند المحامون المصريون لهذه الفتوى عند التقاضي أمام المحاكم ضد وزير التعليم المصري حتى تم إلغاء هذا القرار.

وهكذا قيض الله للأزهر الشريف رجالا أخذوا الأمانة بحقها حتى لقوا الله.. ونرجو المولى، عز وجل، أن يرسل، دائما، لهذا الصرح من يقيله من عثرته وينقذه من محنته