جماليَّةُ الأدبِ
ليس بخفىٍّ عن النقادِ مذهبُ الجماليَّةِ والفنُّ للفنِّ ؛ فالجماليةُ فى إطارِها الواسعِ محبَّةُ الجمالِ ، وأنَّ الفنَّ لا يحملُ مضموناً أخلاقياً ولا يرتبطُ بالحياةِ ، وتكونُ قيمتُه فى شكلِه دونَ مضمونِه ، ومظهرِه دونَ جودتِه ، ومن ثَمَّ فالجماليةُ بهذا المفهومِ ربَّما تتعارضُ مع محتوى الأدبِ الإسلامىِّ ، الذى يُركِّزُ على الفكرةِ والمضمونِ والغرضِ والمغزى ، فرسالتُه ساميةٌ تجلبُ السعادةَ ، وتحقِّقُ المنفعةَ ، وتهبُ الحياةَ قوةً وفاعليةً ، وتمدُّها بقيمِ الخيرِ والفضيلةِ ، والبرِّ والنصيحةِ .
والإسلامُ يُعلى من شأنِ القيمةِ الجماليَّةِ ، ويشجعُها ويتبنَّاها شريطةَ أن تكونَ هادفةً ؛ فبابُه مفتوحٌ أمامَ الإبداعِ الأدبىِّ المثمرِ، والكلمةِ البليغةِ البديعةِ ، والخطابِ الشعرىِّ والنثرىِّ المُوحى ؛ فالأدبُ قيمةٌ جماليَّةٌ جميلةٌ والبيانُ سحرٌ وحكمةٌ بليغةٌ ، والإسلامُ يُعلى من شأنيهما شرفاً وقبولاً ، وفكراً ومضموناً ، وليسَ الأدبُ ( الفنُّ ) كما يرى أصحابُ النظرةِ العقليَّةِ والمثاليَّةِ أنَّه يبتعدُ عن الحقيقةِ ، وأنَّ الشِّعرَ يفسدُ العقولَ ، ويثيرُ اللذاتِ والعواطفَ ، ويقلِّلُ من العنايةِ بالجوانبِ الأخلاقيَّةِ ، بل الأدبُ أكثرُ ارتباطاً بفكرةِ أرسطو حيثُ ربطُ الشعرِ بالمعرفةِ ، ووصفُ الشاعرِ بأنَّه أكثرُ تفلسفاً من المؤرِّخِ ؛ لأنَّ الأخيرَ ( المؤرِّخ ) يُعنى بالجزئياتِ ويرويها نثراً ، والأوَّلُ ( الشاعر ) يُعْنى بالكلِّياتِ ويرويها شعراً .
ومن ثَمَّ فالأدبُ يزوِّدُ
المتلقِّىَ بشموليَّةِ المعرفةِ والفهمِ وبخاصَّةٍ أنَّه يلتقى ضروبَ المعرفةِ
المختلفةَ ، وتتمثَّلُ وسيلتُه فى شكلِه الجمالىِّ ، وقيمتُه فى معناه النفعىِّ ،
وجمالُ الأدبِ لا يُقاسُ بمطابقتِه للواقعِ وتجسيدِه للحياةِ بكلِّ ما فيها فقطْ ،
فبقدرِ ما يلفتُ انتباهَنا ماذا قالَ الشاعرُ يعنينى كيفَ قالَ ؟ ؛ فالعملُ
الفنىُّ إضافةٌ حقيقيةٌ إلى ظروفِ الحياةِ ، والشاعرُ – كما يقولُ العقادُ- مَن
يشعرُ بجوهرِ الأشياءِ لا مَن يعدِّدُها ويُحصى أشكالَها وألوانَها.
وهذا يعني أنَّ الموضوعيَّةَ هى غايةُ
العلمِ ومنهجُه ، فى حينِ أنَّ الذاتيَّةَ والانفعاليَّةَ هى مَن يتحكَّمُ فى
إبداعِ النصِّ الأدبىِّ ، والعلمُ يعتمدُ وصفَ الأشياءِ وكشفَ حقيقتِها وواقعِها ،
فى حينِ أنَّ الأديبَ يعبِّرُ عن الواقعِ من خلالِ انفعالِه به ، ومعيارُ الصدقِ
فى العلمِ لا الإبداعِ والفنِّ. وهناك مَن يرى أنَّ قيمةَ الأدبِ الجماليَّةَ تتجلَّى
فى طبيعتِه الخاصَّةِ ، أى فى تشكيلِه اللغوىِّ والفنىِّ ؛ لذا نرى أنَّ الأدبَ يجسِّدُ الواقعَ من خلالِ
أدواتِه الجماليَّةِ التى تساعدُ الإنسانَ على فهمِ ذاتِه وقراءةِ واقعِه والسعى
إلى تغييرِه والالتزامِ بمقدَّسِه.
وتلخيصاً فالجمالُ إعجابٌ وتمتعٌ ، وقيمتُه تنبعُ من جوهرِه ، بعيداً عن الجانبِ الحسِّىِّ والعقلىِّ ، والجمالُ ارتياحُ قلبٍ وذوقُ عقلٍ وتصوُّرُ فكرٍ ؛ لأنَّ العقلَ محلُّ كلِّ المَلَكاتِ الفكريَّةِ ، والقلبُ محلُّ كلِّ الانفعالاتِ الوجدانيَّةِ ، والجمالُ تختلفُ ماهيَّتُه باختلافِ العصرِ والزمنِ ، والذوقِ والثقافةِ بل وتطورِ معتركِ الحياةِ ، وعلى كلٍّ فالجمالُ والأدبُ صهران لا يفترقان مهما تباينتِ الآراءُ وتعددتِ الأقوالُ .
وللحديثِ
لفتةٌ رابعةٌ مع جمالِ الطبيعةِ وجمالِ الفنِّ .
دار العلوم - الفيوم