سلسلة الإيمان بعذاب القبر... من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيمه (1)

  • 140
الدكتور علاء بكر

الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان الستة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام ، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . والإيمان بعذاب القبر ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر ، إذ إن بداية اليوم الآخر بالنسبة لكل إنسان بوفاته ودخوله القبر ، فالقبر أول منازل الآخرة ، وفي الحديث المرفوع : (القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج فما بعده أشد منه ) ، بل الإيمان بأشراط الساعة الصغرى والكبرى من الإيمان باليوم الآخر. ومن أسماء اليوم الآخر يوم القيامة . والقيامة كما ذكر العلماء قيامتان : صغرى وكبرى . والقيامة الصغرى هي الموت فمن مات فقد قامت قيامته ، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان رجال من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الساعة ، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول : ( إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم ) . و المراد ذهاب قرنهم ودخولهم في عالم الآخرة . قال ابن كثير في النهاية : (فإن كل من مات فقد دخل في حكم الآخرة ، وبعض الناس يقول من مات فقد قامت قيامته ، وهذا الكلام بهذا المعنى صحيح ).

والنوم – أيضًا - وفاة صغرى ، فهو شبيه الموت ، لذا يسمى بالوفاة الصغرى ، والقيام من النوم هو بعث ، قال تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ) ( الزمر :42 ) . وقال تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ) ( الأنعام :60 ) . فمن شاء الله أن يمسك روحه في نومه أمسكها ومن شاء بقاءها ردها إلى الأجل الذي حدده لها. وكلا النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم ، أما التي توفيت وفاة الموت فهي قسم ثالث.

وقد أعلمنا الله تعالى بما يكون بعد الموت لحاجتنا إلى العلم بتلك الأمور الغيبية ، وما يترتب على العلم بها من أعمال القلب واللسان والجوارح ، من الاستعداد لها ، والعمل بمقتضاها ، للنجاة من أهوالها 0فعند البخاري رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي : واجبلاه وكذا وكذا تعدد عليه –أي ظنته مات – فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل : أنت كذلك ؟ - أي تقريعا لها – فلما مات لم تبك عليه رضي الله عنهما . فانتفعت بما علمت. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه ، والحاكم وقال : ( صحيح الإسناد ولم يخرجاه) . عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الميت يعذب ببكاء الحي ، إذا قالت النائحة : واعضداه و اناصراه واكسباه جبذ الميت وقيل: أنت عضدها ، أنت ناصرها ، أنت كاسبها ، (اللفظ لأحمد ) . وعند الترمذي : ( ما من ميت يموت فيقول باكيه واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه : أهكذا أنت ؟ لذا كان من الواجب شرعًا على كل مسلم خاصة من شارف على الموت أن يوصي أقرباءه عامة والنساء خاصة ألا يكون هناك من يعدد أو ينوح عليه بعد موته لئلا يكون مشاركا لهم في الوقوع في هذا النهي ، ويعذب على ذلك.

ومعلوم أن من علامات الإيمان الصحيح : الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة النبوية من أمور الغيب ، وألا يجادل المرء بعقله فيها ، خاصة فيما سيقع في أواخر الأزمان ، وتترك محاولات معرفة حقيقتها لحين وقوعها ، إذ تأويلها هو وقوعها على الوجه الذي يريده تعالى أن تقع به. قال تعالى في صفة أهل الإيمان:( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ( البقرة 2-5 ) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( ما من أحد قط أفضل إيمانا من إيمان بغيب ، ثم قرأ : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب – إلى قوله – المفلحون ) رواه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم .

وقد ثبت في القرآن الكريم عذاب القبر ونعيمه مجملا وجاء في السنة النبوية المتواترة تفاصيل ذلك فوجب الإيمان به على أهل الإيمان . ومعلوم أن السنة النبوية تفصل كثيرًا مما ورد في القرآن مجملا ، كالأمر بإقامة الصلاة في القرآن ، جاءت السنة بعدد الصلوات اليومية المفروضة وكيفية أدائها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها، وكذلك الأمر بصيام شهر رمضان في القرآن بينت السنة واجبات الصيام ومبطلاته وما يحرم على المسلم فيه ، فالسنة النبوية مبينة لما أجمل في القرآن ، وهذا من وظائفها، قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) ( النحل 44 ) . لذا لا يستغنى بالقرآن عن السنة في الأمور الاعتقادية وفي الأحكام ، قال تعالى : ( و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( النجم 3-4) ، وقال تعالى :( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ( الحشر 7 ) .وقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) .

وتعرض الأمة لفتنة القبر وعذابه مما لم يكن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أعلمه الله به ، فعند مسلم رحمه الله بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول : هل شعرت أنكم تفتنون في القبور ؟ قالت : فارتاع رسول الله و قال : ( إنما تفتن يهود ) . قالت عائشة : فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ) . قالت عائشة : ( فسمعت رسول الله بعد يستعيذ من عذاب القبر ) . فهذا أمر يعرف بالوحي لا بالعقل ، ولما لم يكن يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول تلك اليهودية ، وقال : ( إنما تفتن يهود ) ، فلما جاءه الوحي بأن هذا الأمة تفتن أيضًا في قبورها أخذ به ، وعلمه للأمة ، واستعاذ بالله منه ، عملا بمقتضى ما علمه ، وتعليمًا للأمة ما ينفعها .

الأدلة القرآنية على عذاب القبر :

- قال تعالى : (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد ) ( الأنفال 50-51 ) .

وهاتان الآيتان وإن نزلتا في توفي الملائكة للكفرة في غزوة بدر إلا أنها عامة في حق كل كافر ، قال ابن كثير رحمه الله : ( ولو ترى يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرًا عظيما فظيعًا منكرًا ، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون ذوقوا عذاب الحريق ) .

- وقال تعالى : (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون ) (الأنعام 93 ) . و قد فسر ابن كثير بسط الملائكة أيديهم في الآية بالضرب . ومثله قوله تعالى : ( و يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ) ( الممتحنة 2 ) .

- وقال تعالى : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم و أملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) (محمد 24- 28 ) .

فدلت هذه الآيات القرآنية على أن عذاب الكافر يبدأ بواسطة ملك الموت وأعوانه في غمرات الموت وعند قبض روحه ، والعياذ بالله ، وهو عذاب حسي ومعنوي بالضرب والتقريع . ولا يخفى أن الميت من هؤلاء يشهده أهله ومن حوله ساعات قبل موته وأثناءه وبعده ، ويظنونه حال احتضاره وبعد وفاته فاقدًا للحس والإدراك ولا يعي مما حوله شيئًا ، والآيات تخبر أن معه ملك الموت وأعوانه يضربونه و يوبخونه على ما قدمت يداه في دنياه ، وهم لا يرون ذلك ، ولا يشعرون بهم ، و ميتهم في معاناة وشدة لا يستطيع – ولا يستطيعون – دفعها عنه . وهذا ليس بالأمر المستحيل عقلا ، وإن احتارت العقول في فهمه ، و أخفقت الأبصار في إدراكه ، إذ أخفاه الله عن العباد . ونحن نؤمن بوجود الملائكة وأنها حولنا تسجل أعمالنا ، ونؤمن بوجود إبليس والجن ، ولا نراه ولا نراهم ، ولكن جاء في القرآن والسنة الإخبار بوجودهم وبالكثير من أحوالهم فآمن بذلك ، وإن احتارت عقولنا في معرفة كيفية ذلك ، ولكن ذلك ليس بالمستحيل عقلا فكم من مخلوقات حولنا نوقن بوجودها ولا نراها ، فالهواء من حولنا ، تطير بسببه الأشياء وترفرف به الأعلام ، ونعلم يقينا أنه السبب ونحن لا نراه . وحولنا آلاف من الميكروبات الدقيقة الحية لا ترى بالعين المجردة ونراها بكل تفاصيلها العجيبة تحت المجهر ( الميكروسكوب ) ، والكهرباء تسري في الأسلاك فتشغل الأجهزة وتنير الأماكن ونحن لا نرى بأعيننا ونوقن بوجودها. ومعلوم أن آذاننا لا تسمع الأصوات إلا في حدود ترددات محددة فما زاد عنها أو قل لا تسمعه ، وقد تسمعها بعض الحيوانات والطيور ، وتلتقطها أجهزة الاستقبال بوضوح . فليس من الغريب أو المستبعد بعد ذلك عقلا أن تقع تلك الأمور حولنا ولا نراها لأن الله تعالى لا يريد لنا أن نراها، رحمة بنا، ولحكم أخرى، ثم أخبرنا بها لما يترتب على العلم بها من منافع دينية ودنيوية تفوت بالجهل بها .

الابلاغ عن خطأ