عاجل

من الإيمان باليوم الآخر‎... الإيمان بعذاب القبر ونعيمه (2)‏

  • 137
الدكتور علاء بكر

ومما ورد في القرآن -غير ما سبق- في إثبات عذاب القبر والحياة في القبر، وإن تكلم البعض في صحة الاستدلال ‏ببعضها‎:

‏- قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) ‏‏(إبراهيم: 27) ، ووجه الدلالة ما ورد في تفسيرها من أحاديث تبين تثبيت الله تعالى للمؤمنين عند السؤال في القبر، ‏ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقعد المؤمن في ‏قبره أُتِيَ، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)، وفي رواية ‏أخرى: وزاد (يثبت الله الذين آمنوا) نزلت في عذاب القبر‏‎.

‏- قوله تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب . النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون ‏أشد العذاب) (غافر: 45-46)، فأثبت عرضًا على النار لآل فرعون غدوًّا وعشيًّا قبل يوم القيامة؛ قال القرطبي: ‏‏«الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر».‏‎

‏- قوله تعالى: (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون . يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئًا ولا هم ينصرون . وإن ‏للذين ظلموا عذابًا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الطور: 45-47 )، قيل في (عذابًا دون ذلك): عذاب ‏القبر.‏‎

‏- قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ‏ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون: 100)، قال مجاهد: هو ما بين الموت والبعث، وقال ابن القيم: عذاب ‏القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). ‏والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين الشيئين‏‎ .

‏- قوله تعالى: (ولنذيقنهم مِن العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) (السجدة: 21)، قيل: العذاب ‏الأدنى: عذاب القبر، والعذاب الأكبر عذاب الآخرة‎.

والراجح في تفسير الآية أن العذاب الأدنى هو عذاب الدنيا كالقحط ونقص الأموال والثمرات، إذ يمكن معه أن يرجع ‏الإنسان عن ذنوبه ومعاصيه وكفره ويتوب ويتذكر، أما عذاب القبر فأي رجوع يكون عقبه، قال ابن كثير رحمه الله: ‏‏«قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعنى بالعذاب الأدنى مصاب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به ‏عباده ليتوبوا إليه، وروي مثله عن أُبيِّ بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد ‏وقتادة وعبد الكريم الجزري».‏‎

‏- قوله تعالى: (وممن حولكم مِن الأعراب منافقون ومِن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم ‏مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (التوبة: 101)؛ أي: يعذبون في الدنيا، وفي القبر .. قال ابن مسعود وأبو مالك وابن ‏جريج والحسن البصري وسعيد وقتادة وابن إسحاق ما حاصله: إن المراد بذلك عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى ‏عذاب عظيم هو عذاب النار‎.

قال الطبري: «والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل ‏والإذلال أو غير ذلك».‏‎

‏- قوله تعالى في قوم نوح عليه السلام: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارًا فلم يجدوا لهم مِن دون الله أنصارًا) (نوح: ‏‏25)، قال الألوسي رحمه الله: هي نار البرزخ، والمراد عذاب القبر، ومَن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير ‏مثلًا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب .. قال فخر الدين الرازي: تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: ‏‏(أغرقوا فأدخلوا نارًا ) (نوح: 25) وذلك مِن وجهين:‏‎

الأول: أن الفاء في قوله تعالى: (فأدخلوا نارًا) تدل على أنه حصلت عقيب الإغراق، فلا يمكن حملها على عذاب ‏الآخرة، وإلا بطلت دلالة الفاء؛ لأن الفاء تفيد السرعة. الثاني: أنه قال: (فأدخلوا) على سبيل الإخبار عن الماضي‎.

‏- قوله تعالى: (ومَن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى) (طه: 124)، عن أبي هريرة ‏عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير المعيشة الضنك قال: «عذاب القبر». رواه البزار, وقال ابن كثير: إسناده جيد. قال ابن القيم في ‏‏(الداء والدواء): وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول أعم مِن ذلك.‏

‏- قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) في تفسيره ثلاثة أقوال أرجحها قول الجمهور، حيث حملوا الموتة ‏الأولى على العدم قبل الوجود في الدنيا، والموتة الثانية على الخروج من الدنيا، ولم يعدوا نومتهم بعد الفتنة في القبر موتة ‏مستقلة؛ لأن حال البرزخ مِن الموتة الثانية وليس هو مِن دار الدنيا ولا دار الآخرة، بل هو حاجز بينهما، ذكر ابن كثير ‏عن ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية أنها كقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا)؛ أي: عدمًا، (فأحياكم ثم ‏يميتكم)؛ أي: بعد الحياة الدنيوية، (ثم يحيكم)؛ أي: يوم القيامة (ثم إليه ترجعون) .. كذلك قال ابن عباس والضحاك ‏وقتادة وأبو مالك‎.‎


الأدلة القرآنية على نعيم القبر
‏- قال تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله مِن فضله ‏ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله ‏لا يضيع أجر المؤمنين) (آل عمران: 169- 171)، وفيها أن الشهداء مِن المؤمنين ينعمون في حياة برزخية بعد الموت، ‏ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم مِن إخوانهم مِن المؤمنين الذين ما زالوا في الدنيا مِن خلفهم لم يلحقوا بهم بعد.‏‎

جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر رضي الله عنه بعد استشهاد أبيه عبد الله بن حرام رضي الله عنه: إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحًا -‏أي: مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول- وما كلَّم أحدًا قط إلا مِن وراء حجاب، فقال له: يا عبدي تمن أُعطِك، ‏قال: يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك ثانية، فقال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، ‏قال: يا رب فأبلغ مَن ورائي، فأنزل الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون . ‏فرحين بما آتاهم الله من فضله ويسبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) رواه بقي بن ‏مخلد، وابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن غريب.‏

‏- قال تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) (البقرة: 154) وفيها إثبات حياة ‏بعد الموت للشهداء، ولكننا لا نشعر بها، ولا ندركها بأبصارنا وبأسماعنا، رغم أننا نرى أجسام هؤلاء الشهداء أمامنا، ‏مدفونة في قبورها ساكنة، ونظن أن أرواحها فارقتها مفارقة كلية ولا اتصال بينها وبين تلك الأجساد‎.

ملحوظة: لعل مما يدل على النعيم في عذاب القبر في القرآن قول صاحب سورة (يس) -بعد أن قتله قومه بسبب إيمانه ‏برسل الله ونصرته لهم- لما قيل له بعد موته: (ادخل الجنة) قال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني مِن ‏المكرمين)، وقد ذكر العلماء أنه قال ذلك راجيًا النصح لقومه بعد موته كما نصحهم قبل موته راجيًا لهم الخير، ولا ينفع ‏هذا النصح إلا وهم ما زالوا في الدنيا لينتفعوا به؛ إذ لو كان ذلك يوم القيامة ما انتفعوا به، ويوافق ذلك تعقيب الآيات ‏بعدها -بما يفهم منه أن هذا التعقيب بعد قوله الذي قاله- (وما أنزلنا على قومه مِن بعده مِن جند مِن السماء وما كنا ‏منزلين . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) (يس: 28-29)، ويكون قول الملائكة: (ادخل الجنة) مع ‏كونه في قبره بعد الموت أن قولهم هو لروحه، إذ أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة كما سيأتي، أو أنه أُري ‏مقعده داخل الجنة وهو في قبره، ويدل على تنعمه إخباره أنه مِن المكرمين بعد موته، والله تعالى أعلم‎.

فإن قيل: هذه الآيات فيها عذاب القبر ونعيمه عند الموت وبعده ولكن ليس فيها ما تذكرونه مِن تفاصيل هذا العذاب ‏وهذا النعيم مما تفيضون فيه؟ قلنا : هذه التفاصيل مأخوذة مِن السنة النبوية الصحيحة التي بيَّنت ما أشارت إليه هذه ‏الآيات القرآنية مجملًا، فمِن مهام السنة النبوية بيان ما أجمله القرآن الكريم‎.

فإن قيل: إن هناك مَن يُشكك في صحة هذه الأحاديث المتعلقة بعذاب القبر ونعيمه، قلنا: هذا مِن الضلال الشديد؛ ‏فإن الأحاديث النبوية الصحيحة في عذاب القبر ونعيمه كثيرة مستفيضة، منها ما رواه البخاري ومسلم، وهذا من أعلى ‏درجات الصحة، ومنها ما انفرد به البخاري، ومنها ما انفرد به مسلم، ومنها ما لم يرد في البخاري ومسلم مِن الأحاديث ‏الصحيحة والجيدة والحسنة عند علماء الحديث المعتبرين مما تطمئن به النفس إلى صحة ما ورد فيها، وقد ذكر علماء أن ‏أحاديث عذاب القبر ونعيمه متواترة تواترًا معنويًّا يفيد العلم القطعي اليقيني .. نعم هناك بعض أحاديث غير ما أشرنا ‏إليه فيها ضعف يجب تركها إذ يغني عنها ما صح في بابها.‏‎

فإن قيل: مَن لا يحتج بهذه الأحاديث يزعم أنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا يحتج بها في العقائد. قلنا: عدم ‏الاحتجاج بأحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول في مسائل الاعتقاد بدعة محدثة لم يعرفها السلف مِن ‏عهد الصحابة رضي الله عنهم ومَن جاء بعدهم مِن الأئمة مِن التابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة ومَن بعدهم، وإنما قال بها ‏المعتزلة وبعض علماء الأصول مِن المتكلمين، وأخذها عنهم من أخذها مِن علماء الأصول المتأخرين. والمعتزلة ليس ‏عندهم مِن المعرفة بعلم الحديث، فحالهم فيه أنهم مِن المقلدة، وكلام علماء الحديث حجة عليهم. وعلماء الأمة لا يفرقون ‏في الاعتقاد والعمل بين المتواتر والآحاد، وإلا لردت بسبب هذا التفريق أمور اعتقادية كثيرة متفق عليها؛ كالعديد مِن ‏معجزاته صلى الله عليه وسلم المادية غير القرآن الكريم، وكأشراط الساعة الصغرى والكبرى، وتحديد العشرة المبشرين بالجنة ...إلخ .. ‏وقد ذكرنا أن أحاديث عذاب القبر ونعيمه مِن المتواتر المعنوي، فبطل قولهم، على ما في الاحتجاج به مِن الفساد. وقد ‏رد المعتزلة أحاديث أخرى متواترة بسبب مقالتهم تلك المبتدعة كأحاديث الشفاعة، والدجال، ونزول المسيح في آخر ‏الزمان، ونزول الرب عز وجل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير مِن الليل في كل ليلة‎.

وآفة المعتزلة ومَن وافقهم أنهم في قضية عذاب القبر عرضوا الأمر أولًا على عقولهم فلما عجزت عن تصوره؛ لكونه مِن ‏الأمور الغيبية التي لا تدركها العقول، وحجبت الحواس عن إدراكها -وقد بينا أنه ليس مِن المستحيل عقلًا وقوع ووجود ‏أمور لا نراها ولا ندرك كيفيتها- عمدوا إلى النصوص فردوها وكذبوا بها وشككوا فيها. وفاتهم أن الروح وعلاقتها بالبدن ‏وتفاصيل ذلك مِن الأمور مما أخفاه الله تعالى عنا، قال تعالى: (وما أوتيتم مِن العلم إلا قليلًا). فوجب التسليم بكل ما ‏أخبر به الشرع عنها، وتجنب الخوض في كيفيته وتفاصيله، إذ لا يحيط بالكيفية والتفاصيل إلا الله تعالى ومن أحاطه عز ‏وجل بها؛ (ولا يحيطون بشيء مِن علمه إلا بما شاء).‏