وجوب معاملة الناس بظاهرهم لا بما في قلوبهم - الأدلة على عدم تكفير العصاة

  • 147

أنقل لكم من بحث قضايا الإيمان والكفر لفضيلة الدكتور محمد إسماعيل المقدم بتصرف يسير:

وجوب معاملة الناس بظاهرهم لا بما في قلوبهم
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً من الكفار، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته! مع أنه قال: لا إله إلا الله؛ فوقع في نفسي من ذلك! فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟!) قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح! قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ! قال: فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين يعني: أسامة رضي الله عنه، قيل: لأنه كان له بطن عظيم، فقال رجل: ألم يقل الله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال:39]؟ فقال سعد : قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.
هذا الحديث يجب أن يوضع نصب عين كل من لا يقتنع بأن يحاسب الناس على ما يظهرون، شأن العبيد مع العبيد فبعض الناس يريد أن يحاسب الناس على ما في قلوبهم لا يكتفي بما يظهرونه، ويظل يتتبع ويتحرى حتى ظهرت هذه البدعة الضالة: التوقف والتبين!....
فالذي يعامل الناس على ما في قلوبهم فهو الله سبحانه؛ لأنه وحده الذي يطلع على ذلك، معلوم قول النبي عليه الصلاة والسلام في مناسبة أخرى: (إني لم أؤمر أن أنقب عما في قلوب الناس أو أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي بعض الآثار كما في الموطأ عن عيسى بن مريم عليه السلام قال: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً، ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). فالإنسان الذي يعامل الناس على ما في قلوبهم تجد أنه ينازع الله في ربوبيته.
إن قلة الفقه بهذه القضايا هي التي أوجدت مثل هذه الأمور التي نسمع بها من بعض إخواننا في أفغانستان؛ لعدم وجود الفقه والبصيرة والعلم الشرعي، كان بعض الإخوة إذا لاقوا الجنود من حكومة أفغانستان الشيوعية تجد جرأة على إراقة الدماء، فيقولون: لا إله إلا الله ومع ذلك يقتلونهم، هذا انحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لماذا؟
يقول: هو ما قال ذلك إلا بعد ما قدرت عليه وكدت أن أقتله؛ هذا نفس ما حدث مع أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، ومع ذلك زجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قد يطرأ سؤال: لماذا لم يؤاخذ النبي عليه الصلاة والسلام أسامة بقتله ذلك الرجل الذي قال: لا إله إلا الله؟
الجواب: لم يؤاخذه لوجود الشبهة في هذا الأمر، وأنه ظن أنه إنما قالها تعوذاً؛ فلو قال إنسان هذه الكلمة حتى لو كان الظاهر أنه يتعوذ بها فإنها تحميه، وفي قصة بني جذيمة حينما عرض عليهم خالد الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، صبأنا.
فصبأنا من حيث اللغة تعني تغيير الدين، أما هو فقد فهمها بخلاف ذلك؛ لأن فيها نوعاً من عدم الصراحة في إثبات أنهم مسلمون أو غير مسلمين، وكان ينبغي أن يتحرى خالد رضي الله عنه لكنه عرضهم على السيف وقتلهم؛ فحينما بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، وأرسل دية هؤلاء القوم حتى ميلغة الكلب)؛ أي: حتى الإناء الذي يلغ فيه الكلب دفع النبي عليه الصلاة والسلام تعويضاً عنه.
الشاهد أن الإنسان ينبغي أن يحترز في مثل هذه الأشياء، وألا يجترئ على إراقة الدماء، وللأسف نسمع الكثير من الناس يسمون قتل المسلمين جهاداً في سبيل الله، هذه مصيبة من المصائب، وهي تنم عن الجهل الفاحش والجرأة على اقتحام حرمات الله تبارك وتعالى.
يظن الإنسان أنه إذا خاض في قتال الفتنة أنها ما هي إلا لحظات ثم يقفز ويطرح حيث يشاء، ويظن أن ذلك شهادة، ولا يدري لعله قد يلج نار جهنم بإراقة هذه الدماء أو إذا قُتِل في مثل هذه الفتن، فينبغي أن تسمى الأشياء بأسمائها.
فالجهاد: هو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله، هذا عند الإطلاق صحيح، وتوجد صور أخرى من الجهاد؛ كجهاد النفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من الجهاد، طلب العلم جهاد، السعي في طلب الرزق جهاد، الخروج على الحاكم إذا جاز الخروج عليه هذا نوع من الجهاد.
لقد شوه الجهاد الآن حتى صار إذا ذكرت كلمة: (جهاد)، تنصرف إلى أحد هذه الأنواع، وإن كان تعريف الجهاد في أي كتاب من كتب الفقه ينصرف عند الإطلاق إلى قتال المشركين لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى.
وفي الرواية الأخرى لـمسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقتلته؟) قال -أي: أسامة -: نعم، قال: (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!) قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: (كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!).
الأدلة على عدم تكفير العصاة
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف! فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك).
الشاهد هو: دخول بعض أهل المعاصي تحت المشيئة، هذا لا يكون إلا للمسلم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: (يا معاذ بن جبل) ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ بن جبل)! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: (هل تدري ما حق الله على العباد؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ بن جبل)! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: (ألا يعذبهم). في رواية أخرى لـمسلم فيها هذه الزيادة، قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) يعني: يعتمدوا على ذلك ويتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. ولو أن معاذاً رضي الله عنه فهم أن هذا النهي للتحريم لما أخبر بهذا الحديث، لكنه فهم أن هذا النهي عن التبشير ليس للتحريم، ولذا أخبر به عند موته تأثماً وخوفاً من كتمان العلم.
أيضاً من الأدلة على عدم تكفير العصاة: إقامة الحدود، فالله تبارك وتعالى شرع كثيراً من الحدود في بعض المخالفات، والأدلة متواترة على ذلك في القرآن والسنة والإجماع.
ومن أهم هذه الحدود: حد الزنا: فالمحصن يرجم، والبكر يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً أو الجلد فقط على خلاف، شارب الخمر يجلد من أربعين إلى ثمانين جلدة، وغير ذلك مما فيه حد....
السارق تقطع يده، القاتل يقتل، السن بالسن، العين بالعين، الإصبع بالإصبع، وكذلك سائر الجروح، المحاربون تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، والمرتدون يقتلون: (من بدل دينه فاقتلوه).. التعزير هو عقوبة من الإمام فيما لا حد فيه.
فإذاً: لو كان هؤلاء كفاراً لماذا تفاوتت الحدود في النوعية والمقادير.
إن تفاوت الحدود واختلاف أنواعها له دلالة، حتى القتل هل يقتل ردة أم يقتل حداً؟ فإن كان مسلماً قتل حداً.
وبالتالي تجري عليه سائر أحكام المسلمين بعد قتله، من كونه يغسل ويصلى عليه ويورث ويدفن مع المسلمين، أما إذا قتل ردة فيعامل بعد قتله معاملة الكافر والمرتد.
هذا أحد الأدلة أيضاً التي يستدل بها أبو عبيد في رده على الخوارج في كتاب الإيمان: ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم -أي: الخوارج- وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوبتهم القطع والجلد.
وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [الإسراء:33]، فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو وأخذ دية ولكنه القتل، لو أن القاتل كفر بالقتل لما وجب في حقه إلا حد الردة؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه)، لكن الله عز وجل وسع في الأمر، وجعل لولي المقتول سلطاناً: إما أن يعفو (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة:178]، وإما أن يقبل الدية، وإما أن يصر على أن يقتل كما قتل قريبه.