التأويل الفاسد وبدعة التوقف والتبين

  • 132

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ما من فتنة وقعت أو فتنة ظهرت أو دم أريق إلا بسبب التأويل الفاسد، التأويل قد يصير بصاحبه إلى أن يرى الحلال حراما بل البدعة سنة ومثل هذا التأويل لا يصلح للتأسي بل العمدة بما ثبت من أدلة شرعية، فالتأويل الفاسد هو اتخاذ العقل أصلا ويكون الدليل تابعا له، فإذا ظهر تعارض بين الأدلة العقلية والأدلة الشرعية فيقوم صاحب التأويل الفاسد بتأويل النص الشرعي ليوافق الدليل العقلي؛ هذا لأنه رأى أن هناك تعارضا بينهما، وهذا لا يكون أبدا لأنه لا يتعارض نقل صحيح مع عقل سليم إلا أن يكون هناك خلل في هذا العقل أو ضعف في النص، وعلى هذا فعند ثبوت صحة النص يكون النص حجة والنظر العقلي تابعا له، ولا يعنى ذلك إهدار قدر العقل أو قيمته بل هذا احترام للعقل ووقوف به عند حدوده كالسمع والبصر، فلو كلف الإنسان أن يبصر شيئا على بعد عدة كيلو مترات بعينه المجردة لكان ذلك تكليفا بغير مستطاع وفوق الطاقة وعدم تقدير لهذه الحاسة.

كذلك العقل له حدود مع الشرع، وحد العقل أن يسلم للشرع عند ثبوت الدليل ثم تظهر قيمة العقل بإعماله في فهم هذا الدليل في ضوء القواعد والأدلة الشرعية؛ لأن الأمور الشرعية لا يستقل العقل وحده بإدراكها، وعلى سبيل المثال، مسائل الغيب لا يستقل العقل بإدراكها دون بيان الأنبياء والرسل؛ فالغيبيات لا تدرك بالمجادلات والمناقشات العقلية، فعند مجيء النص بشيء من هذه الغيبيات لا يجوز معارضة هذا النص بالعقل بحجة أن العقل لا يدرك ذلك الأمر، فيجب التسليم للنصوص ثم إعمال العقول في البحث عن الحكم الإلهية من وراء ذلك الأمر، كهذا المثال المشهور من سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» ( رواه البخاري).

رد أصحاب هذا المنهج الفاسد هذا الحديث بحجة أن العقل لا يقبل مثل هذا الأمر المقزز على زعمه، مع أن الحديث قد رواه الإمام البخاري فهو في أعلى درجات الصحة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بشرب هذا الشراب، هذا يرجع إلى كل واحد بحسبه لكن لا ترد الحديث لمجرد أنه لم يوافق عقلك، فهذا المنكر للحديث قدم عقله وجعل النص تابعا له، وعندما لم يدرك عقله ما وراء النص من حكمة شكك في الحديث ورده، وعندما قام أحد الباحثين من غير المسلمين ببحث في مسألة الذباب وكانت نتيجة البحث أن الذبابة في أحد جناحيها فيروس وفى الجناح الآخر مضاد لهذا الفيروس، حينها سّلم هذا المنكر لهذا البحث وهذا خلل كبير، لو أنه سلم للنص أولا ثم سأل عن الحكمة في ذلك لأرشده الثقات لذلك، ولو لم يرشده أحد للحكمة فيجب عليه التسليم للأمر، وهذه عبادة محضة سواء ظهرت له حكمة في ذلك أم لا.

وتظهر خطورة هذا التأويل عندما يتعلق الأمر بالدماء والأعراض والأنفس، يقول ابن القيم رحمه الله " إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة (يعنى الفاسدة) المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضا وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم ما هو أعظم مما يرصدهم به".

وفى واقعنا المعاصر ظهرت بدعة خطيرة (بدعة التوقف والتبين) وقعت بسببها فتن عظيمة،خرج أصحاب هذه الفتنة وزعموا أنه لا يثبت عقد الإسلام للمكلف بمجرد النطق بالشهادتين، مخالفين بذلك النصوص الشرعية المتواترة التي تنص على هذه القضية الخطيرة، والسبب في ذلك هذا التأويل الفاسد اللعين الذي تم به معارضة الدليل: زعموا أن كلمة التوحيد كانت تكفى للدخول في الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقط لأن المخاطبين في ذلك الوقت كانوا عربا يفهمون معاني الكلمة لأنهم أهل لغة وفصاحة وبيان، أما الآن فالناس تنطق الشهادتين ولا يفهمون معناها فيحتاجون إلى شروط أخرى معها حتى يثبت لهم عقد الإسلام.

ومن سوآت بدعتهم أنهم لا يسقطون هذا الكلام على من أراد أن يدخل الإسلام من غير المسلمين بل يتوقفون في إسلام عوام المسلمين حتى يتبين لهم تحقق هذه الشروط الثلاثة المزعومة فيهم وأسموها حد الإسلام وهى: (الحكم – النسك – الولاية)، وهذا الحد غير قابل للزيادة وغير قابل للنقصان فإذا تخلف بعضه تخلف كله،وهذا مثل قول الخوارج في الإيمان، فلا يثبت الإسلام عندهم لأحد بل يتوقفون في إسلام عامة المسلمين حتى يتبين لهم معرفتهم بهذه الشروط الثلاثة معنى الحاكمية بكل صور تبديل الشرائع، ومعنى والولاء والبراء بكل صور الموالاة لأعداء الله الجلية والخفية بجميع شعبها وأنواعها، وتفاصيل العبادة، ولا يعذر بالجهل بها أحد كائنا من كان، وهذه شبهة باطلة وحجة فاسدة وقعوا فيها بهذا التأويل الفاسد اللعين.

هذه شروط لم يشترطها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أرسله الله عز وجل للناس كافة عربهم وعجمهم، وكان يقبل من الجميع الشهادتين فقط في ثبوت حكم الإسلام لهم، ناهيك أنه قد دخل في الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عجم ولم يشترط لدخولهم الإسلام غير الشهادتين كبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي؛ بل كان من العرب من ينطق الشهادتين وهو لا يعلم كثيرا عن تفاصيلها كما في قصة عدى بن حاتم عندما دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه صليب من فضة، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال : بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، ومع أنه عربي قح جهل أن من مقتضيات العبادة التحليل والتحريم وأن هذا حق من حقوق لا إله إلا الله،وفهم أن معنى العبادة محصور في الركوع والسجود لهم من دون الله عز وجل .

الحاصل أن هذه الشروط لم تأت في كتاب ولا سنة وإنما هي محض الهوى والتأويل العقلي الفاسد -ومما ترتب على هذا التأويل اللعين أنهم عمدوا إلى تقسيم المجتمع إلى ثلاث طوائف: معسكر الإيمان وهذا المعسكر ممن حقق هذه الشروط، ومعسكر الكافرين المحاربين للدين، وطائفة ثالثة لا هي إلى معسكر الإيمان ولا إلى معسكر الكفر، وإنما هي طائفة متميعة ليست من معسكر الإيمان ولا هي من معسكر الكفر، يتوقفون في إسلام هذه الطائفة إلى أن يتبين لهم حالها وعند التطبيق العملي إذا سألت أحدهم هل أجريت هذا الاختبار على أتباعك جميعا حتى تتبين إسلامهم فتكون الإجابة لا ولكنه مستعد لقبول هذه الشروط.

إذن حقيقة الأمر: أن من كان معه في معسكره فهو المسلم ومن ليس معه فليس بمسلم، ومن ثم ترتب على هذا الأمر تكفير للمجتمعات واستحلال للدماء والحرمات،وهذا مما حذرت منه الشريعة بل أمر الدين بحفظ حرمة دم المسلم وعرضه وماله، فبهذا الأمر أصبح هذا التأويل الفاسد اللعين عدوًا للدين. والحمد لله رب العالمين.