عاجل

نادر بكار والتكفير الانتقامي

  • 222

لم يكن لي رغبة أن أكتب في هذا الموضوع لأسباب كثيرة ، منها انشغالي الشديد هذه الأيام ، ولكن هالني ما أقرأ وأسمع من "هري" و "زروطة" من أناس يُفترض فيهم الإنصاف وتوافر الحد الأدنى من الثقافة الشرعية -التي يبدو أنها تعيش أزمة خطيرة جداً في هذه الأيام- ، وسأصوغ أفكاري في هذا الموضوع في صورة سؤال وجواب ، وأسأل الله التسديد والقبول .

س : هل اللفظ الذي ذكره نادر بكار وعده حديثاً ( أن رجلاً زنت امرأته فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- لو سترتها بثوبك لكان خيراً لك ) هو لفظ حديث صحيح ؟
ج: لا ، فإن قوله -صلى الله عليه وسلم- ( لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ) جاء في سياق إحدى روايات قصة ماعز بن مالك ، فأخونا نادر أقحم لفظة "امرأته" في لفظ الحديث الصحيح ، والقصة فيها أن هذا الكلام كان مُوَجَّهاً لرجل زنت جاريته وليست امرأته ، ومن المهم هاهنا أن نعلم أن هذه اللفظة " لو سترته بثوبك " لم تخرج في سياق الإجابة على سؤال الرجل وشكواه وإنما خرجت في سياق لوم الرجل أنه لم يُشِر على ماعز بأن يستر نفسه .

س : هل هذا يسوغ -بأي درجة- تكفير نادر بكار واعتباره زنديقاً مرتداً "يجب قتله" ؟
ج : بالطبع لا ، لأننا لو افترضنا -جدلاً- أن اللفظ يحتمل الإساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد بين نادر بكار بعدها بياناً صريحاً ( في مقاله المكتوب في الشروق ) أنه لم يقصد قط هذا المعنى الباطل ، فلا يجوز أن نلزمه بما لم يلتزمه ، والحقيقة أنني أرى أن الكلام هاهنا عن شروط التكفير وموانعه -وإن كان حقاً في نفسه- إلا أنه لا محل له ، فلوازم القول -لا سيما إذا لم يلتزمها صاحبها- ليست من المكفرات أصلاً ، حتى يُحدِّثنا بعض المتكيسين عن موانع التكفير !!!

س: ألا يُعتبر نادر بهذا مصراً على الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونسبة الإساءة إليه ؟!!
ج: وأين الإصرار يا عباد الله ؟! بل مقال نادر المنشور في الشروق صريح في أنه لم يقصد الإساءة وإنما قصد إيصال رسالة لا أظنها تخفى إلا على المُندفع بعاطفة غير رشيدة ، أو الحاقدين المَوْتورين ، هذه الرسالة مفادها أن الشريعة العظيمة تدعو إلى الستر لا إلى الفضائح ونشر الفواحش !! وكذلك نفس هذا المقال المذكور لم يذكر فيه نادر إلا ألفاظاً وروايات ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس فيها خطأ ولا وهم ، وإن كان لي من عتاب على أخي نادر فهو أن مقاله في الشروق كان فيه نوع من القصور إذ كان ينبغي أن يكون بيانه موَجَّهاً بشكل دقيق لموطن الالتباس كالجراحة الدقيقة الموجهة لمكان الإصابة لا تتعداه إلى غيره ، وموطن الداء ومحل الجراحة هاهنا الذي استغله المدلسون وطار به الشانئون هو لفظة ( امرأته ) ، فكان ينبغي أن يبين أن هذه اللفظة دخيلة على الرواية التي ذكرها -مع كون المقصد الإجمالي للكلام صحيحاً لا شك في ذلك- .

سؤال فقهي تكميلي مهم جداً لفهم المسألة التي زايد بها البعض : هل يجوز للرجل أن يستر زوجته إذا زنت ؟
وجواب هذا السؤال أن الرجل قد يعلم بزنا امرأته من خلال المُعاينة أو الاعتراف ؛ فإن علم به من خلال رؤيتها وهي على الفاحشة فمن الفقهاء من يُجَوز له قتلها ومن معها في الحال ، وهذا أحد قولي الشافعي وأحمد ، ومرادهما بهذا الجواز ما بينه وبين الله -تعالى- ، لكن ليست تلك بحجة مُقنِعة لإسقاط التبِعات القانونية إذ لو كان الأمر كذلك لكان لأي أحد أن يقتل امرأته ثم يدعي أنه رآها على الفاحشة ، إذاً لا تسقط التبعة القانونية ويبقى هذا الرجل مطالباً بالقصاص قانوناً "رغم كونه غير معاقب عند الله -تعالى- " ، ولا يسقط هذا القصاص إلا بأحد أمرين ؛ إما البينة ( بمعنى أن يراها معه شهود أربعة يشهدون على الزنا وأنه قتلهما على تلك الحال ) ، وإما اعتراف أولياء المقتولَيْن بفاحشتهما فتسقط المطالبة بدمهما والقصاص لهما حينئذ ، ( هذا كله في أحد قوْلي الشافعي وأحمد خلافاً للجمهور الذين يقولون بل لا يجوز له فعل ذلك ولو فعل للزم القصاص ) .

هذا كله عن الجواز لا على الوجوب ، بمعنى أنه لا يجب عليه أن يُعاقِبها في الحال ، وإنما غاية الأمر أن بعض الفقهاء جوز له ذلك ، والسؤال هاهنا: هل أمامه خيارات أخرى ؟
والجواب : نعم ، أمامه أحد حلول أربعة ، بل تلك الحلول في الحقيقة هي الأصل ، لأن الأصل أن العقوبة من سلطة الدولة لا من سلطة الأفراد- ، وهذه الحلول كالتالي :
1- إما أن يُطلِّقها في الحال تخلصاً منها ومن فسقها وعارها ،
2- وإما أن يُمسِكها ويُضارها حتى تختلع منه كما في قول الله -تعالى- ( ولا تضاروهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) ، وفائدة هذا الحل أنه فيه عقوبة لها بحرمانها من حقوقها المادية ، وهو ما يُعرَف في زماننا ب "الطلاق على الإبراء" ،
3- وإما أن يُمسِكَها فَترة حتى ينظر في أمرها فتظهر عليها التوبة وأماراتها ويطمئن لذلك فيعفو عنها ويظلا على الزوجية ،
4- والخيار الأخير أن يُلاعِن كما في قول الله -تعالى- ? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين # وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِين # وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِين # وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِين # وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ?

إذاً هذه الخيارات الخمس فيمن رأى فاحشة امرأته بعينه ؛ إما القتل وإما المُلاعنة ( وهذان الخياران لا ستر فيهما ) ، وإما الطلاق أو الخلع أو الإمساك مع التوبة ( وهذه خيارات تتضمن الستر ) ، أما من لم ير بعَيْنه فليس له القتل باتفاق العلماء ، وهل له أن يُلاعن ؟
على قولين أصحهما أن له اللعان إذا وجدت قرائن قوية على الزنا كأن تصير حاملاً في طهر لم يمسها فيه ، والله أعلم .

إذاً من لم ير بعينه ( كأن اعترفت له امرأته ، أو شك في أمرها فحاصرها حتى اعترفت ) دائر غالباً بين الخيارات الثلاثة التي تتضمن الستر ، ويوجد اختيار أخير يتضمن الستر لكنه محرم وهو أن يمرر الزوج الأمر وكأن شيئاً لم يكن بل البعض يقره ويرضى به -والعياذ بالله- وهذا هو الذي وصفه الشرع ب "الديُّوث" وجاءت الأحاديث بأنه "ملعون" .

إذاً فعلى أي الأحوال ؛ الستر واجب طالما لم يصل الأمر للقضاء ، ولم يؤد إلى تزوير نسب ، أو رضا بفاحشة ، أو تضييع حق يتمسك به صاحبه ، فهل يمكننا بعد كل هذا أن نقول أن الأصل هو الستر وعدم نشر الفاحشة من غير أن يتضمن الأمر رضاً بالفواحش -عياذاً بالله- أو إقراراً لها ، فإن المسلم لا يرضى بالفاحشة في المجتمع عموماً فكيف يرضى بها في أهله ؟!!

لهذا أقول : دع عنك كلام الجهال الذين يتصورون -لجهلهم وضيق مداركهم- أن الستر يستلزم الرضا والإقرار ، فهؤلاء لم تتشرف بالفقه لهم نفس ، ولم يرتفع لهم في العلم رأس ، بل هم جاهلون مُدَّعون ، وأكثرهم يحسبون أنهم مثقفون مُصلحون ( بعض هؤلاء -لجهله- لا يفهم من الستر إلا أن الزوج يسخن الماء لزوجته وعشيقها كي يغتسلا وممكن -برضه- يعمل اتنين شاي لغاية مايخلصوا !!!!!!!!!!! ) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وأخيراً ، لي مجموعة من الأسئلة الاجتماعية الخطيرة -ولعلها الأهم في هذا المقام- وهي :

*ألا يدفعنا هذا الموقف بما فيه من تزيد رخيص ، وتسرع في إصدار الأحكام ، وجرأة على التكفير ، إلى دراسة حالة أولئك المسارعين إلى التكفير ، والمُزايدين بغيرتهم على الدين -مع الجهل الفاضح- ، ومعرفة الأسباب الفكرية والتربوية والسلوكية والنفسية التي أدت بكثير من المتدينين من كل الاتجاهات -وإن كان يقودهم تيار بعينه- إلى هذا المستنقع الآسن من التلاسن البغيض والتوظيف الانتقامي للأحكام الشرعية ؟!!!

*ألا يدفعنا هذا الموقف إلى دراسة أسباب حالة الخواء التي يعيشها كثير من المتدينين -ومن أبناء التيار السلفي خصوصاً- التي أدت بهم إلى هذه الاندفاعات والمزايدات -وهم الذين تعودوا ألا يتحركوا إلا بفتوى- حتى صار أحسنهم حالاً الذي انتهز تلك الفرصة ليزايد على نادر ويصفه بأنه مصر وكابر .....إلخ تلك الأوصاف التي ترضي ما أسميته قبل ذلك "التعصب المضاد" ؟!!!

*ألا يؤكد لنا هذا الموقف أن كثيراً من نجوم الفيسبوك وممن يعتبرون أنفسهم مثقفين ماهم إلا بلالين فارغة ؟!!

*ألا يدفعنا هذا الموقف إلى مراجعة ثوابتنا الدعوية والتي منها الرفق بالمخطيء ؟!!

فحتى لو أخطأ نادر -وأنا أرى أنه أخطأ في الحكاية واللفظ لا في المقصد- فهل نتصور أن المخطيء يرجع عن خطئه بهذا الهجوم اللا أخلاقي والجور في الأحكام والتكفير الانتقامي أم أن هذا مما يعين الشيطان عليه ؟!! جاء في الحديث الذي أخْرَجَه غيرُ واحد مِن أئمة الحديث؛ منهم الإمام البخاري - رَحِمَه الله - في "صحيحه"، مِن رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِرجُل قد شرب، قال: ((اضربوه))، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فمنا الضاربُ بيده، والضاربُ بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان))، وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة: قال رجل: ما له أخزاه الله؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم))، وجاء في حديث آخر نحوه، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبدالله، وكان يُلَقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتِي به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجل منَ القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يؤتَى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنوه، فواللهِ ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله)) ، فهذا يشرب الخمر -مراراً- والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن لعنه لما عنده من خير ، ويقول ( لا تعينوا الشيطان على أخيكم ) ، فأين هذا من أحوالنا ؟!!!