مناجاة

  • 207

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد،

فيقول تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:69-89].

آيات نيرات وثناء عطر وتوسل ملؤه الوجل ومناجاة تنبض بالإيمان، باكورة ذلك قول إبراهيم لقومه: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)، أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمرهم، والذي رباهم بنعمه،ثم أثنى على ربه بقوله: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) والله عز وجل خالقه فى القلوب, ونعمة الهداية أجل النعم على الإطلاق، ولخطورة وضرورة تلك النعمة الكبرى ومسيس الحاجة إليها سيما فى أزمنة الفتن والمحن والاضطرابات والصراعات والأزمات -افترض الله علينا أن نسأله إياها فى كل يوم وليلة على الأقل 17 مرة قائلين اهدنا الصراط المستقيم.

ومن روائع ما نستمطر به الهداية هذا الدعاء الفذ الذى كان يستفتيه به رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجده بالليل حيث كان يقول: «اللهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفْتُ فِيهِ مَنِ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

ثم أثنى إبراهيم على ربه بقوله والذى هو يطعمنى ويسقين، وكلنا أخوتاه جائع إلا من أطعمه الله، كلنا جاهل إلا من علمه الله، كلنا عار إلا من كساه الله، كلنا ضال إلا من هداه الله، كلنا شقي إلا من أسعده الله، كلنا مغلوب إلا من نصره الله.

ثم كان هذا الأدب الجم الذى تمثل فى قوله إبراهيم (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) ولم يقل وإذا أمرضتني. ومع أن المرض بقدر الله إلا أنه لما كان فيه ما فيه من النقص والعيب وما تكرهه النفوس عول عن قوله وإذا أمرضتنى وإذا مرضت تأدبا مع الله.

يواصل إبراهيم ثناءه على ربه فيثبت له الإحياء والإماتة قائلا(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ).

ثم ينكسر قائلا بلسان المشفق على نفسه: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).

وهذا شأن الكمل من الخلق والنخبة والصفوة من عباد الله يشهدون تقصيرهم ويعترفون بذنوبهم ويقرون بخطئهم.

وبعد هذا الثناء العطر وتلك المحامد الكريمة التى فتح الله بها على إبراهيم كان هذا السؤال الدعاء الخالد الذى أبقاه الله لإبراهيم والذي بدأه بقوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا). قال: ابن عباس: أي علمًا. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وصحبة الصالحين في الدنيا والآخرة غاية وغنيمة سعى إليها سادات الصالحين.

فهذا يوسف لما توالت عليه النعم وتتابعت عنده الآلاء تضرع إلى ربه قائلا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

ثم قال إبراهيم: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)، أي: اجعل لي ذكرا جميلا من بعدي، وقد فعل الله به ذلك، فكان فى طليعة من عناهم الشاعر بقوله:

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

وفى مقابل تلك القمم أصفار ونكرات يحسبون فى عداد الأحياء، وهم فى الحقيقة موتى بموت قلوبهم وسود صنيعهم.

ثم كان هذا السؤال الجلل: (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيم)، وقد بين الله خصال الثلة المؤمنة في فاتحة سورة المؤمنون، فإن كان لك حاجة في اللحاق بهم والخلود في بحبوحة الجنة فالزم غرزهم وانسج على منوالهم.

أما قول إبراهيم: (وَاغْفِرْ لِأَبِي)، فهذا مما رجع عنه إبراهيم: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

ثم ختم إبراهيم دعاءه وثناءه ومناجاته التى تفوح وتنضح وتقطر إيمانا بقوله: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

وإذا كانت المناجاة منوطة ومعلة على صلاح القلوب هنا فأروا الله من قلوبكم خيرا وسلوه جل فى علاه أن يجدد الإيمان فى قلوبكم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

الابلاغ عن خطأ