رمضان .. دورة تدريبية مكثفة

  • 166

إحسانٌ إلى الخلق
وإذا كنا بذلك قد عرفنا الوجه الأول من وجوه (الإحسان) وقد تبيَّن تعلقه بأفعال الإنسان؛ فإن ثاني معاني (الإحسان) متعلق بمعاملة الناس، ويقصد به أن يصل الإنسان إلى أفضل تعامل ممكن مع دوائر الخلق المحيطة به بدءًا من الوالدين: ?وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ?، وانتهاءً بالإحسان إلى الحيوان «ولكم في كل كبد رطبة أجر»، والنبات: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ** فطالما استعبد الإنسان إحسان
 
كان أجود ما يكون في رمضان

ومن أبرز الأمثلة التي يتأكد منها معنى الإحسان إلى الخلق جميعًا في رمضان حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «كان رسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه ‏ ‏جبريل،‏ ‏وكان يلقاه في كل ليلة مِن رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏أجود بالخير مِن الريح ‏المرسلة».
 
فقوله: «أجود -أي أشد كرمًا وسخاءً- ما يكون» تعني أن إحسانه صلى الله عليه وسلم للناس في هذا الشهر قد تضاعف مرات ومرات .. أما لفظة (الخير) في الحديث تشمل كل معاني الإحسان للخلق التي تناولتها أحاديث شتَّى في غير رمضان؛ بدءًا مِن تبسُّمك في وجه مَن تلقاه: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»، ومصافحته: «إذا تصافح المؤمنان تساقطت ذنوبهما»، ومرورًا بالسير معه في قضاء كل حوائجه الدنيوية: «ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجة أحب إلى مِن أن أعتكف في مسجدي هذا شهرًا»، بكل ما يعنيه قضاء حوائج الناس: «تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا» وعلى رأس ذلك تأتي الصدقة للمحتاج: «ما نقص مال عبد مِن صدقة»، وهي للأقرب فالأقرب: «الأقربون أَوْلى بالمعروف»، هذا بالطبع بجانب الإحسان في القول المجموع في قوله تعالى: ?وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا?، وتشمل تشميت العاطس، ورد السلام والابتداء بإلقائه، والنصح برفق ولين، وأداء الشهادة بالحق، وترك انتقاص الناس بالسخرية أو الغيبة أو السب واللعن.
  

التنافس في الإحسان
وهي نفس أحاديث الصيام التي لا يجهلها منَّا أحد، لكن المثير للدهشة أنها تحوي أبعادًا مختلفة تُبْهِرك كلما طالعتها مِن زاويةٍ مختلفة، فمَن منَّا مثلًا ليس فقط يحفظ، بل يتبارى في تحقيق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن فطر صائمًا كان له مثل أجره دون أن ينقص مِن أجره شيء»؟ الحديث الذي يدرب النفس البشرية على بذل الإحسان للناس في واحد مِن أرقى صوره وأفضلها، فالذي يدعوك إلى طعامِ إفطارٍ قد أعده متحمس إلى أقصى درجة لنيل هذا الثواب سهل المنال، والمدعو للإفطار متحمس بدوره لا يجد في ذلك تقليلًا لمروءته؛ لعلمه أن ذلك لا ينتقص مِن ثوابه شيئًا، فالإحسان بين الطرفين متبادلٌ، فقراء كانوا أو أغنياء، أصدقاء أم فرقاء .. والحق أنه تدريبٌ عملي لما سبق وإن حضَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم في أول أحاديثه بالمدينة: «أيها الناس؛ أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
 
ويتكرر الحث على (إطعام الطعام) كصورة مِن صور الإحسان في نهاية الشهر الكريم، لكن بصورة التكافل الاجتماعي الإلزامى هذه المرة، وذلك حين فرضت الشريعة على المسلمين إخراج (زكاة الفطر) تطهيرًا لصيامهم مما قد شابه، ولا ريب مِن أوجه التقصير والتفريط، وهي في هذا قد عمدت أن تشير إلى الإحسان للفقراء تحديدًا، وقبل مناسبة يتهيَّأ فيها الجميع للاحتفال والابتهاج بيوم فطرهم، لعل ذلك أن يحدث الأثر المطلوب في ترابط المجتمع وتماسك بنيانه، بغرس الإحسان إلى الفقراء في نفس كل ميسور الحال.