حادث مروع

  • 147

بي غضب شديد مستبد منذ الصباح لا أعرف كيف أصرفه، ذلك أني استيقظت في السابعة والنصف صباحا على نداء يتردد في المستشفى:

" على جميع ا?طباء النزول إلى الطوارئ لوجود حادث كبير"

ومع النداء يتردد صوت العديد من سيارات ا?سعاف .. ولما أجبت نداءهم، فزعت مما رأيت:

فمصابو الحادث عددهم ما يقرب من العشرين ولدا وبنتا، لما يشبوا عن طوق الطفولة ..

أراهم وغيرهم يوميا في طريقي للعمل، أطفالا يسلكون طريقا وعرة في عربيات مكشوفة يجلسون في صندوقها الخلفي المزدحم ..

يذهبون إلى الحقول يغنون في الصبح الباكر، ثم يعودون وقت العصر بعدما يأخذون "اليومية" فيترجون السائق أن يقف بهم أمام باعة "ا?يس كريم" المنتشرة على الطريق ، كي يستعيدوا جزءا من طفولتهم التي فقدوها في عملهم الشاق ! لكني رأيتهم اليوم بعدما انقلبت سيارتهم على الطريق، وجاؤوا إلى المستشفى: منهم الذي يمسك يديه التي انكسرت وانثنت في الحادث، ويصرخ في ألم ..

وهذا الذي ترى وجهه قد تطاير نصفه، فلا يبدو منه إلا لحم ممزق !

وهذا الذي استلقى على ظهره، لا يستطيع الكلام ?صابة في رأسه ! وهذه التي تبكي أخاها في حرقة !

وتلك التي نست اسمها من الصدمة ! كلهم يصرخون ويبكون بأعلى صوتهم، وكأنهم يبثون في بكائهم كل أحزانهم، وأشجانهم .. وغضبهم، وكراهيتهم ! كأنهم حينما يرسلون الدمع يحسبونه قذائف تحطم الفقر الذي ألجأهم للخروج من ديارهم في البرد والضباب ليتحصلوا على قروش يعطونها ?بائهم ..

أم تراهم يصرخون فيمن جعل لهم طرقا وعرة يسيرون عليها ، وللسادة علية القوم طريقا فاخرا موازيا ، ليس لهؤلاء العمال الصغار أن يسلكوه !
أم يبكون من شعور القهر والعجز !

أم يأسفون على ضياع أحلامهم وآمالهم !

هل دنست دماؤهم التي سالت عالمهم الوردي، واقتحمت كالفيضان حدائقه وجنانه فصارت حصيدا ؟!

أم يبكون ?ن من ورائهم أب غليظ ينتظر منهم "اليومية" ، وذلك الحادث يعني له ضياع عدة جنيهات ليوم وعدة أيام بعدها، فلا يجد لغضبه متنفسا غير أن يبطش بأولئك الصغار ؟ لا أدري ! ولكنني أدري أن عمرا كان يقول: "لو عثرت دابة في العراق لخشيت أن يسأل عنها عمر"، وأن الحاكم يأتي يوم القيامة يسأل عن كل أولئك الذين أوذوا من رعيته ! تملكني ذلك الغضب الهادر من الدولة التي تهمل أبناءها وترحب بموتهم وكأنهم من سقط المتاع.

ومن الشعب الذي يعيش في بذخ ، ويدوس على الشعب الفقير وكأنه الذر لا يؤبه به ! لم يفارقني ذلك الغضب .. ولا أعرف متى سيفارقني !
خاصة وأن ذلك الطريق الذي شهد ذلك الحادث شهد وفاة أخ عزيز أول رمضان، لم يخرجه من داره إلا عمله، ثم لم يعد ! رحم الله من مات .. ومن عاش !