• الرئيسية
  • مقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (127) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (2)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (127) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (2)

  • 48

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ) الآية، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال: إن إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه، فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) الآية. (قلتُ: إسناده ضعيف عن ابن عباس، وفيه غرابة؛ إذ فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي استدل باستغفار إبراهيم لأبيه ليستغفر لأمه، بل نكارة).

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية. (قلتُ: وهذا هو الصحيح في المسألة؛ جواز الاستغفار للأحياء من الكفار إذا كان لهم إحسان إلى مسلم، أو هناك مصلحة في هدايتهم للإسلام؛ لأن معنى الاستغفار للكافر وهو حي؛ أن يتوب الله -عز وجل- عليه فيسلم، وهذا الذي فعله إبراهيم حتى مات أبوه على الكفر، فهنا تبرأ منه).

وقال قتادة في هذه الآية: ذُكِر لنا أن رجالًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا نبي الله، إن مِن آبائنا مَن كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم؛ أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه. فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) حتى بلغ قوله: (الْجَحِيمِ)، ثم عذر الله تعالى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية.

قال: وذُكِر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قد أوحى الله إليَّ كلمات، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي؛ أمرتُ ألا أستغفر لمن مات مشركًا، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له، ومَن أمسك فهو شر له، ولا يلوم الله على كفافٍ. (قلتُ: إسناده ضعيف، والحديث مرسل).

وقال الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذُكِر ذلك لابن عباس فقال: فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًّا، فإذا مات وَكَلَه إلى شأنه ثم قال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) لم يَدْعُ.

ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب قال: لما مات أبو طالب، قلت: يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره ولا تحدثن شيئًا حتى تأتيني، فذكر تمام الحديث. (قلتُ: حديث حسن، وهذا يدل على الإحسان إليه حال حياته، والدعاء له بالصلاح، فإذا مات ولم يوجد غيره يدفنه في غير مقابر المسلمين وجب عليه دفنه؛ لأن دفن الآدمي واجب أيًّا مَن كان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى قتلى المشركين في بدر في قليب، وطمره عليهم، فمواراة الأدمي من شريعة آدم -عليه الصلاة والسلام- كما دَلَّت عليه قصة الغراب، فالميت سوأة ولا بد أن يُوارَى ولو كان مشركًا، وأما إن كان على أهل ملته مَن يقوم بمواراته ودفنه، فلا يشهد المسلم الجنازة، ويتركه وشأنه كما قال ابن عباس).

وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّت به جنازة عمه أبي طالب قال: وصلتك رحم يا عمِّ. وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحدٍ من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حُبْلَى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين، يقول الله -عز وجل-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).

وروى ابن جرير، عن ابن وكيع، عن أبيه، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلًا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قلت: ولأبيه؟ قال: لا. قال: إن أبي مات مشركًا.

وقوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ): قال ابن عباس: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي رواية: لما مات تبين له أنه عدو لله.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله.

وقال عبيد بن عمير، وسعيد بن جبير: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حين يلقى أباه، وعلى وجه أبيه القترة والغبرة (قلتُ: أي: تغير في الوجه، وغبار أسود)، فيقول: يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك. فيقول: أي ربي، ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون؟ فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي: قد مسخ ضَبْعًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار. (قلتُ: والحديث في الصحيح، ومعنى متلطخ أي: بعذرته وفضلاته؛ لكي لا يتألم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من منظر أبيه الذي يعرفه معذبًا).

وقوله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ): قال سفيان الثوري وغير واحد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الأواه: الدَّعَّاء. وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود. (قلتُ: الدَّعَّاء: كثير الدعاء، الخاشع المتضرع لله -عز وجل-، وهذا ثابت عن ابن مسعود -رضي الله عنه-).

وروى ابن جرير بسنده عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، قال رجل: يا رسول الله، ما الأواه؟ قال: المتضرع، قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (قلتُ: مرسل، وشهر بن حوشب ضعيف).

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك، عن عبد الحميد بن بهرام، به، قال: الأواه: المتضرع: الدَّعَّاء. (قلتُ: معناه ثابت موقوفًا؛ لأن الدعاء هو بالتضرع، كما قال الله -عز وجل-: (‌ادْعُوا ‌رَبَّكُمْ ‌تَضَرُّعًا ‌وَخُفْيَةً) (الأعراف: 55)، فالثابت موقوفًا يغني عن هذا الضعيف المرفوع، وربما يُقَال: يقويه بعض التقوية).

وقال الثوري عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين عن أبي الغدير أنه سأل ابن مسعود عن الأواه، فقال: هو الرحيم. وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، والحسن البصري، وقتادة: أنه الرحيم، أي: بعباد الله.

وقال ابن المبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الأواه: المُوقِن بلسان الحبشة (قلتُ: أي: مما اشترك فيه اللسان العربي واللسان الحبشي)، وكذا قال العوفي، عن ابن عباس: أنه الموقن. وكذا قال مجاهد، والضحاك. وقال علي بن أبي طلحة، ومجاهد، عن ابن عباس: الأواه: المؤمن. زاد علي بن أبي طلحة عنه: والمؤمن التَّوَّاب. وقال العوفي عنه: هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جريج: هو المؤمن بلسان الحبشة) (انتهى من تفسير ابن كثير).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.