الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (161) دعوة غيَّرت وجه الأرض (8)

  • 29

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الثامنة:

قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ):

قال القرطبي -ونقل مثله البغوي عن ابن عباس ومقاتل-: "تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه، من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أُسْكِنَا بوادٍ غير زرع"؛ نجد في هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- المشاعر الفياضة من الحنان والرحمة من الأب بولده وأم ولده، والإشفاق البالغ عليهم، مع اليقين بوعد الله وحفظ الله، وعلم الله المحيط بما نخفي وما نعلن، فهو يعلن الدعاء ويعلن الامتثال، ويبطن الإخلاص في ذلك، مع اليقين بأن الله لا يضيعهم، مع كمال التوكل على الله -عز وجل-.

وأيضًا مع هذه المشاعر الإنسانية الرقيقة من الحنان والوجد عليهم، لكن لا يغير ذلك كمال الامتثال، وبهذا كله -وغيره- وصل إبراهيم إلى منزلة الخلة "فهو خليل الرحمن"؛ فقد أَخْلَص لله وأُخْلِص لله، وأسلم لله، وأحب الله فوق كل حب، وضحَّى بنفسه وولده لله -عز وجل-، ومع ذلك لم يكن عنده القسوة ولا الغلظة على خلق الله؛ خاصة أحبهم إليه من ولده وأهله، مع شدة ضعف الولد، وشدة عجز أمه كذلك في هذه البيئة الجغرافية الصعبة من الجبال والصحراء وحولها، وانعدام الزرع، وانعدام الماء ساعتها، وانعدام الأنيس والبشر بالكلية، والمعين.

كل ذلك كان يجول في نفس إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقول إلا ما يرضي ربه ويتوكل عليه، ويكل ولده وأمه إلى الله الذي أيقن أعظم اليقين أنه لن يضيعهم، وأنه لن يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا شك أنه أمر بهذا الأمر من إسكان أهله وذريته بوادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرم؛ يعلم أن من وراء ذلك من المصالح والحِكَم والخيرات ما أُثِيب عليه إبراهيم، وما أثيبت عليه هاجر، وما أثيب عليه إسماعيل حين هوت قلوب المؤمنين عبر الزمان إلى هذه البقعة المشرَّفة طالبين الأجر والثواب والرضوان من ربِّ العباد الذي شرع أن تعمَّر مكة المكرمة.

وبغير هذا لم تكن مكة لتعمر، بل  ولا لتنشئ أصلًا، لكنه فضل الله ورحمته بالبشرية كلها وبإبراهيم وإسماعيل وهاجر -عليهم السلام-، وعلينا من بعدهم لتعمير مكة موضع النسك والشعائر، ومضاعفة الأجور، والولادة الجديدة للقلوب بالحج والعمرة، اللهم لك الحمد، ولك أسلمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، أنت ربنا وإليك المصير.

الفائدة التاسعة:

وفي قوله -تعالى-: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، تقرير كمال صفة العلم له -سبحانه وتعالى-، بالكليات والجزئيات؛ خلافًا للفلاسفة الكفرة الذين زعموا أن الله لا يعلم الجزئيات؛ ولأنهم ينفون الذات والأسماء والصفات، فواجب الوجود أو الوجود المطلق ليس له ذات ولا اسم ولا صفة، ولا علم ولا إرادة! هذه العقيدة الخربة التي تدل نصوص القرآن على إبطالها بالكلية، فكلها تثبت علم الله بالكليات والجزئيات؛ منها هذه الآية: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، ومنها قوله -تعالى-: (‌وَعِنْدَهُ ‌مَفَاتِحُ ‌الْغَيْبِ ‌لَا ‌يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59)، وقال -سبحانه وتعالى-: (‌يَعْلَمُ ‌مَا ‌يَلِجُ ‌فِي ‌الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4)، وقال -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌سَادِسُهُمْ ‌وَلَا ‌أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)، وقال -تعالى-: (‌وَمَا ‌يَعْزُبُ ‌عَنْ ‌رَبِّكَ ‌مِنْ ‌مِثْقَالِ ‌ذَرَّةٍ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌وَلَا ‌فِي ‌السَّمَاءِ ‌وَلَا ‌أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس: 61).

وما جنت الفلسفة على البشرية إلا الجهل والضلال، والظلمات والحيرة، والشك والشرك -نعوذ بالله من ذلك-، وهذا يرشدنا: أن علم الكلام الذي استعمل أساليب الفلاسفة وطرق المنطق في الاستدلال لا خير فيه، وقد أدَّى بأهله إلى أنواع البدع والانحرافات والضلالات، فقالت المعتزلة عن الله -تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا-: عليم بلا علم، وقالت الجهمية بأنه ليس بعليم ولا له صفة العلم، فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ ‌عِوَجًا) (الكهف: 1)، وأغنانا به عن الخوض بالباطل في مجاهل الفلسفة، وعلم الكلام.