قصة سقوط جدار برلين وبناء ألمانيا

  • 117
جدار برلين

تكمن أهمية ذكرى انهيار برلين فى التاسع من نوفمبر 1989،فى رمزيتها الضخمة ،فهو ليس مجرد هدم سور فى مدينة أوروبية، بل تعتبر علامة للمرحلة التى انتقلت فيها السياسة الدولية من حالة الثنائية القطبية لحالة الأحادية القطبية وهيمنة القطب الواحد، وانهيار الكتلة الشرقية بعد فشل النموذج الشيوعى و انهزامه حضارياً أمام الغرب.كما يعتبر هدم الجدار تتويج وشهادة نجاح لسياسة النفس الطويل التى اتبعها الساسة فى ألمانيا الغربية واستطاعوا بها كسب ثقة الغرب وتأييده، فى سعيهم لإعادة توحيد ألمانيا، فبعد أن أشعلت ألمانيا شرارة حربين عالميتين راح ضحيتهما عشرات الملايين وتغيرت خريطة العالم مرتين، أصر الغرب على تقسيم ألمانيا وتفتيتها، فتم اقتطاع 23% من مساحتها، تم ضم جزء منها لفرنسا، وضم جزء آخر لبولندا، وتم تقسيم ما تبقى من ألمانيا إلى قسم شرقى خاضع للاتحاد السوفيتى، وقسم غربى يدور فى الفلك الأمريكى والأوروبى، فحاول كونراد أديناور المستشار الألمانى، نسيان جراح الماضى وتجاوزها، و كسب ثقة الحلفاء الغربيين أعداء الأمس، وحاول الغرب مساعدة ألمانيا فى بناء اقتصادها لإثبات نجاح النموذج الغربى على غرار الحال فى كوريا الجنوبية، ولم تكن ألمانيا مجرد متلقى للمساعدات حينها بل إن كل دولار تلقته ألمانيا من الغرب، قامت باستغلاله واستثماره، لأقصى حد حتى تم بناء ألمانيا الغربية ذات الاقتصاد القوى، وهنا قرر أديناور، التضحية بالعلاقات مع الشطر الشرقى، فى سبيل كسب ثقة الغرب الذى لم يعط لها ثقته إلا بعد التأكد من حقيقة نواياها، فاستطاعت أن تبرهن له عملياً أن ألمانيا الموحدة سوف تكون إضافة لرصيد الغرب لا خصماً منه، ومن ثم عادت ألمانيا الغربية للاستدارة شرقاً من موقع القوة مدعومة بأصدقائها الغربيين، مستغلةً النجاح الذى حققته فى فرض إملاءاتها على النظام الشرقى، فى سبيل تحقيق الوحدة الألمانية، ودفعه لتقديم تنازلات أدت لانهياره فى النهاية وتهدم الجدار العازل الذى كان رمزاً للانقسام بين شطري ألمانيا.وفى نفس الوقت لم يكن انهيار جمورية المانيا الشرقية وتوحيد المانيا عام 1990 ممكنا دون التحولات السياسية الجذرية في الاتحاد السوفيتي السابق والتي اخذت بوادرها تظهر منذ منتصف الثمانينيات، فقد ادت الاصلاحات التى طبقها ميخائيل غورباتشوف، الرئيس السوفيتي لتخلي الاتحاد السوفيتي عن موقع السيد الآمر والناهي في حلف وارسو العسكرى، واتجاهه نحو اقامة علاقات طيبة وتعاون اقتصادي مع حلف شمال الاطلسي.وقد أوضحت المظاهرات الضخمة ضد النظام الشيوعي رفض الالمان الشرقيين لهذا الحزب ولسياساته وان الوحدة مع الجزء الغربي اصبحت امر لا يمكن التنازل عنه ، وقد اضطرت هذه التطورات ايريش هونيكر الامين العام للحزب الحاكم ورئيس الدولة لتقديم استقالته في 18 أكتوبر ، ممهدا الطريق امام تفتت الحزب وانحسار قدرته على ضبط الامور، الا ان خليفته على سدة الحكم ايغون كرينتس حاول ضبط الامور واعادة هيبة الحزب وسلطته وتأثيره، ولكنه سرعان ما ايقن بانه يجذف عكس التيار مما اضطر المكتب السياسي للحزب الى تقديم استقالة جماعية في 8 نوفمبر 1989،ليتم هدم الجدار فى اليوم التالى.

لتنتهى بذلك مرحلة كان يعتبر فيها محاولة العبور من الشرق للغرب هى محاولة انتحارية، فكان الألمان يبنون الأنفاق تحت الجدار ، وأشهر هذه الأنفاق نفق57 الذي تمكن 57 شخص من الهروب عبره قبل أن تكتشفه مخابرات ألمانيا الشرقية.يذكر أن بناء الجدار جاء في عام 1961 من قبل جهورية ألمانيا الديمقراطية لوقف النزيف الاقتصادي الذي عانته، بسبب هجرة الناس منها إلى الجزء الغربي لألمانيا، فقد هاجر أكثر من 1.6 مليون ألماني من شرق البلاد إلى غربها، فبدأت قيادة الحزب الشيوعي الحاكم ببناء الجدار تدريجيا، ومات 138 شخصا خلال محاولاتهم عبور الجدار بعد أن أطلق حراس الجدار النار عليهم.ولواقعة فتح السور قصة طريفة، فردا على سؤال وجهه صحافي إيطالي حول متى سيبدأ تنفيذ قانون جديد يسمح لمواطني ألمانيا الشرقية بالسفر للخارج، أجاب المتحدث الرسمي باسم الحكومة الألمانية الشرقية، جونتر شابوفسكي، بطريق الخطأ : "حسب علمي سيدخل حيز التنفيذ في الحال".

وجاءت إجابة شابوفسكي هذه خلال مؤتمر صحافي عُقد مساء التاسع من نوفمبر، تشرين الثاني 1989 خلال وقت الذروة بالنسبة لمشاهدي التلفزيون، وقد أصبح هذا المؤتمر من أكثر المؤتمرات أهمية في تاريخ أوروبا.نُقل المؤتمر الصحفي على الهواء مباشرة وتابعه المواطنون في شطري ألمانيا، وكان للخطأ الذي وقع فيه شابوفسكي تأثير مباشر على الوضع السياسي العالمي؛ لأنه بمجرد انتهاء المؤتمر توجهت جموع غفيرة من مواطني ألمانيا الشرقية إلى الحدود بين شطري برلين لكي يعبروا إلى الجزء الغربي من المدينة.

قامت قوات حرس الحدود التي لم يكن لها علم بقانون السفر الجديد بوقف هذه الجموع لمدة ثلاث ساعات، لكن وفي ساعة متأخرة من مساء التاسع من نوفمبر 1989 تراجعت القوات المذكورة عن منع الناس من العبور وفتحت المعابر بين شطري المدينة. وبذلك بدأت نهاية عملية تقسيم ألمانيا.