شبكات الاتصالات تمضى فى طريق الانهيار.. والكل «شريك»

  • 95
صورة أرشيفية

بدأ نظام «الرخص المتعددة» فى دفع شبكات الاتصالات فى مصر إلى مسار خطير، بدأ بحدوث الازدحام داخل الشبكات، وهذا تحقق فعلياً وبات يؤثر على أداء الشبكات أرضية ومحمولة وخلافه، ثم ظهور دلائل على اقتراب الشبكات من مرحلة الاختناق التى تصبح فيها أجزاء من الشبكات وكأنها مشلولة أو ميتة لبعض الوقت، وهى ظاهرة تحدث من حين لآخر وآخذة فى التزايد، وإذا لم يتغير الوضع بسياسات وإجراءات تقضى على الزحام وتفك الاختناق، ستكون النتيجة الحتمية الدخول فى المرحلة الثالثة وهى «الانهيار» المتكرر لشبكات الاتصالات ككل أو لأجزاء كبيرة منها من وقت لآخر، وهذا وضع سيئ لا تتحمله البلاد مطلقاً، ووفقاً للمؤشرات المتاحة لا يوجد الآن ما يمنع الوصول إلى مرحلة الانهيارات الجزئية أو الكاملة فى غضون ثلاث إلى خمس سنوات، ولذلك فإن الانتقال إلى نظام التراخيص الموحد يعد نقطة تحول «مفصلية» لتفادى المضى قدما فى هذا المسار السيئ.

بدون مواربة، فإن كل الأطراف العاملة فى قطاع الاتصالات وهى: الدولة ممثلة فى وزارة الاتصالات وجهاز تنظيم مرفق الاتصالات والهيئات الأخرى ذات العلاقة، والشركة المصرية للاتصالات المشغلة للشبكة الأرضية والشبكة الفِقرية للبلاد، والشركات المشغلة لشبكات المحمول، جميعهم شريك فى بقاء القطاع على هذا المسار الملىء بالمخاطر، وجميعهم شريك فى تقديم نموذج فريد «للمشاركة فى صناعة الأزمة».. وسأبدأ اليوم مناقشة ظاهرة «الشراكة فى صناعة الأزمة» باستعراض موقف جهاز تنظيم الاتصالات ومعه وزارة الاتصالات بالتبعية؛ لكونه يتحمل الجزء الأبرز فى موقف الدولة.

يتضمن الدور المفترض لجهاز تنظيم مرفق الاتصالات والوزارة رسم السياسات واقتراح التشريعات والقواعد القانونية والتنظيمية التى تستشرف المستقبل، وتحقق توازناً دقيقاً بين مصالح الأطراف المختلفة وفقاً لقواعد العدالة العمياء والحياد الكامل، وتدفع الأمور نحو مزيد من الانفتاح والتوسع المحسوب بدقة فى قدرات الشبكات العاملة بالبلاد، وتوفير البيئة المناسبة لتمرير «التحولات الكبرى» فى القطاع بأعلى قدر من الأمان وفى التوقيت المناسب.. بعبارة أخرى، إن الوزارة والجهاز مسئولان مسئولية كاملة عن تأمين احتياجات البلاد من خدمات الاتصالات، على المستوى الاستراتيجى العام، ومسئولان مسئولية كاملة عن ضمان تجنيب البلاد أى مآزق أو مخاطر صعبة الاحتمال فيما يتعلق بشبكات الاتصالات.

ولأن نظام التراخيص يشكل الإطار القانونى المسئول عن ضبط وإنجاز كل هذه الأمور معاً، كان من المحتم أن يتعامل الجهاز والوزارة مع قضية الرخصة الموحدة باعتبارها «نظاماً متكاملاً جديداً للتراخيص»، يستهدف الانتقال بقطاع الاتصالات إلى مرحلة يستطيع فيها استيعاب احتياجات البلاد ومؤسساتها ومواطنيها، ويضعه فى مأمن من مخاطر الاختناق والانهيار، و«نقطة تحول استراتيجى» فى مسار قطاع الاتصالات، تفرضها الاعتبارات الوطنية الضاغطة، والتطورات العلمية والعالمية المتلاحقة.. فماذا فعل الجهاز ورئيسه؟منذ مطلع العام وحتى الآن تعامل الجهاز مع القضية باعتبارها «صراعاً تجارياً ومالياً» بين اللاعبين الكبار فى سوق الاتصالات على عائدات الصوت والبيانات بالشبكات المحمولة والشبكة الأرضية، وهم الدولة بصفتها المنظم لحركة القطاع وصاحب الحق فى فرض وجباية رسوم التراخيص، وشركات المحمول الثلاث، والمصرية للاتصالات صاحبة الشبكة الأرضية وشبكة الاتصالات الفقرية الرئيسية للبلاد، واعتبر الجهاز أن دوره هو تسوية هذا الصراع لا أكثر، ومن ثم ظهرت الرخصة الموحدة أمام الناس وكأنها آلية لتسوية «خناقة» على الزبائن والمكاسب، نشبت بين المصرية للاتصالات وشبكات المحمول، وليست نقطة تحول يتحتم خوضها لتتفادى البلاد خطر انهيار الشبكات فى غضون ثلاث سنوات.

بهذه الطريقة قدم أداء الجهاز ورئيسه نموذجاً صارخاً على الانغماس فى التفاصيل والحذر والخوف المرضى من اقتحام الرؤى والاستراتيجيات العامة، فهو لم يرتفع إلى مستوى مسئولياته الوطنية ويطرح على الناس علناً أن نظام الترخيص الحالى يقود القطاع إلى الانهيار إن عاجلاً أم عاجلاً، وإذا ما سلمنا بقدراته الفنية والمؤهلات العلمية واحترامنا له على المستوى الشخصى، فإن الأداء فى هذه القضية كان دليلاً دامغاً على أن هذه القدرات لا تكفى مطلقاً لإدارة قضية قومية بهذا المستوى.

لقد تجاهل هذا النهج الشركاء الجدد الأشد تأثيراً على عمليات التطوير والتنمية بالقطاع والمجتمع ككل، وأعنى بهم موفرى خدمات الإنترنت، وملاك المحتوى القادمين من صناعات الإعلام والثقافة والترفيه، ومسئولى القطاعات الخدمية بالدولة من الأحوال المدنية إلى مرافق المياه والكهرباء والغاز، إلى التعليم والصحة، وغيرهم من القابضين على المحتوى بالمؤسسات المختلفة، بل تجاهل الدور الذى يمكن أن تلعبه بعض المؤسسات فى وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات نفسها مثل هيئة تنمية صناعة المعلومات، كما تجاهل الأطراف القائمة على تجهيز وتطوير هذا المحتوى، الذى بات يتجاوز خدمات الصوت ويدفعها إلى متاهة تقلل من قيمتها وتأثيرها فى هذه الصناعة.

زاد من التأثير السيئ لأداء رئيس الجهاز، سوء أداء الفريق الإعلامى المعاون له، والذى كان سبباً رئيسياً فى دفع رئيس الجهاز إلى مستويات أعمق من الفشل فى التواصل المجتمعى وتكريس فكرة «الخناقة»، وتغييب فكرة «التحول الاستراتيجى»، ومع هبوط رئيس الجهاز وفريقه الإعلامى بالقضية إلى هذا القاع المتدنى من الأداء، أصبحت قطاعات واسعة من المجتمع والمسئولين بالدولة يأنفون من متابعة ما يجرى، أو يتعاملون معه باعتباره خناقة بين مئات الخناقات المشتعلة بالبلاد لا أكثر.استمرار رئيس الجهاز فى هذا النهج يجعل بقاءه فى منصبه على المحك وإعادة النظر، فليس هناك أخطر على البلاد من وجود مسئول يمارس التورية والتعمية فى قضية مصيرية حساسة، طوعاً أو خجلاً أو كرهاً، ويتقاعس عن قول الحقيقة التى تفرضها عليه مسئولياته الوطنية وضميره المهنى، ويترك نفسه والمؤسسة التى يديرها ككرة تتقاذفها أيادى من «يتصارعون» مالياً وتجارياً على تورتة مدفوع ثمنها من دم الغلابة، وتخطئ الدولة ووزارة الاتصالات ووزيرها خطأ فادحاً بترك الأمور بيد من يديرها بهذه الطريقة، أما الفريق الإعلامى بالجهاز فيحتاج لأن يتعامل معه أحد المديرين المعنيين بوزارة الاتصالات، ويخيره بين الارتفاع بمستوى الأداء أو ترك المهمة لآخرين أكثر كفاءة ووعياً.

والخلاصة: ليس معقولاً بالمرة أن نضع قضية مفصلية واستراتيجية فى قطاع مهم وحساس، تارة بين رئيس جهاز عقله وأداؤه مختفيان وراء قفاز سميك يفصله عن قضايا مجتمعه، وتارة أخرى بين فريق إعلامى أداؤه بالغ السوء ولا يرتقى لمستوى أهمية القضية.

الابلاغ عن خطأ