التغرير بالشباب والتوظيف الخاطيء للنصوص

  • 197

يدفعون بالشباب إلى مواجهة غير متكافئة ، ومغامرة غير مدروسة محكوم عليها بالفشل سلفاً ، فإذا ما تحدثت عن موازين القوة وأنها ليست في صالح أنصار مرسي ، وأن الواجب عليهم أن ينسحبوا ويتبنَّوا الواقعي من الأهداف -فقط- بوسائل واقعية كذلك تُراعي موازين القوة ولا تُهدِرها ، تجد البعض يحتج بقول الله -تعالى- ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ، سبحان الله !!!! خلط عجيب ، وفهم مُشَوَّه !!

خلط بين الأمر الكَوْني والأمر الشرعي ، وبين الخبر والتكليف ، فالله -تعالى- يُخبر عباده عن أمر واقع كوناً أن الفئة القليلة كثيراً ما انتصرت على الفئة الكثيرة ( من غير بيان وتفصيل للقلة ونسبتها ؛ كم كانت مقارنة بالكثرة نصفها أم ربعها أو أقل من ذلك أو أكثر ) ، فالآية خبر مُجرَّد لبيان أن الأسباب المادية ليست مِعياراً بل الله -تعالى- هو الذي يُدبر الأمر كله ، وهو يفعل ما يشاء ، ويُخلِف مُقتضى الأسباب إذا شاء -سبحانه- لمن شاء من عِباده لصلاح وتقوى ، أو ابتلاءً لعدوهم ، أو لغير ذلك من الأسباب ، أما التكليف الشرعي ، ففيه نصوص كثيرة لا يجوز ولا يصح أن تُهْمَلَ من أجل هذا الخبر عن أمر كَوْني ، ولا تعارض بينهما أصلاً ،من هذه النصوص قول الله -تعالى- ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وأنت تلحظ في هاتين الآيتين الكريمتين اللتين تُعرفان بآيتي المُصابرة اعتبار العدد ، والخبر هاهنا بمعنى الطلب والأمر ، ومعنى الآية الأولى أنه يجب على العشرين أن يصبروا أمام المئتين ولا ينسحبوا "وجوب الصبر أمام العدو إذا كان عدده لا يزيد على عشرة أضعاف المُسلمين " ، ثم خُفِّف هذا الحكم بما جاء في الآية التالية لها فصارت المصابرة واجبة أمام العدو الذي لا يزيد عن ضعف عدد أهل الإسلام ( مائة يغلبوا مائتين ) ، أليس هذا اعتبار للعدد في حكم تكليفي صريح ؟!!
ثُمَّ إن كثيراً من أهل العلم من الحنفيَّة والشافعيَّة وغيرهم ذكروا أن هذا عند تقارب الصفات ( أي : موازين القوة العسكرية كالتسليح والموقع ومدى تحصينه .... إلخ ، فإذا تقاربت الصفات لم يجز الانسحاب إلا أمام العدو الذي يزيد بأكثر من الضعف على الأقل ، أما إذا تفاوتت تفاوتاً بيناً كمن يحارب الأباتشي بالعصا فحينها يجوز الانسحاب حتى لو لم يكن العدو بهذه الكثرة !! ) .

ومن هذه النصوص -أيضاً- قصة انسحاب خالد بن الوليد في مؤتة بسبب قلة عدد المسلمين وغلبة الظن بحصول الانهزام فانسحب بالجيش ولم يكن هذا ضعفاً ولا جُبناً بل محافظةً على رأس المال وهي أرواح المسلمين من أن تذهب بلا فائدة ، وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- صنيعه وسماه فتحاً ، وفي نفس المعنى تجد حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم وغيره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحداث آخر الزمان وقصة عيسى بن مريم -عليه السلام- ، وفيه : ( .... فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ... ) ، فيكون الواجب تحصين المؤمنين وإبعادهم عن مواجهة يأجوج ومأجوج لئلا يهلكوا في مواجهة غير متكافئة .

وبنفس المنطق المُعوج ( أن القلة تهجم على أي عمل بدون حسابات لموازين القوى ) ، هل يُقبل في واقعنا الآن أن يهاجم العشرات أو المئات إسرائيل بالعصي أو السيوف أو حتى الآلي زاعمين أنهم سيحررون القدس ؟!!
وإذا كان هذا مقبولاً فلم لا تفعلونه أو تشجعون الناس عليه ؟!!! ولم لا تُقدِم حماس الإخوانية -وهي في قلب الحدث- على مثل ذلك ؟!!! " مع أن إمكاناتها أكثر بكثير !!!!
بل الانسحاب في تلك الحالات جائز لا يختلفون في ذلك ، ولكن .... هل من الممكن أن يكون الانسحاب واجباً والاستمرار مُحرماً ؟ والجواب : نعم ، إذا كان الأمر -بالإضافة إلى اختلال الموازين- لا يترتب عليه أي نكاية بالكفار أي أنه ضرر محض من كل وجه " هزيمة ودماء وأسر دونما إضرار مؤثر بالأعداء "، فحينها يجب الانسحاب ويحرم الاستمرار كما نص على ذلك النووي في روضة الطالبين ، ونقل ابن جُزي عن إمام الحرمين أنه لا خلاف فيه .

*لاحظ أن هذا كله في الجهاد والقتال الشرعي ، الذي يكون عدوك فيه كافراً ، فكيف بالاختلاف السياسي بين المُسلمين ؟!!! الذي يبقى فيه أن الطرف المُقابل -مهما كانت درجة مخالفته- معصوم الدم !!!!