السياسة الشرعية بين المداراة والمداهنة

  • 201

قديما قالوا لا يعيش فى الناس من لا يدارى، يحتاج الإنسان فى حياته إلى كثير من المداراة مع الأهل والجيران والأصحاب فضلا عن رؤسائه فى العمل وأصحاب النفوذ وغيرهم.

روى الإمام مسلم فى صحيحه حديث رقم 2591 "عن عائشة :"أن رجلا استأذن على رسول الله فقال ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة أو بئس رجل العشيرة فلما دخل عليه ألان له القول.
قالت عائشة فقلت يا رسول الله قلت له الذى قلت ثم ألنت له القول؟ قال يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه (تركه) الناس اتقاء فحشه "قال الإمام النووى معلقا على فوائد الحديث: مداراة من يتقى فحشه، جواز غيبة الفاسق المعلن فسقه...
ولم يمدحه النبى صلى الله عليه وسلم ولا أثنى عليه فى وجهه ولا في قفاه إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام.

الناس فى هذا الباب أقسام ثلاثة :

-         الأول: صدامى يواجه الناس بما يكرهون ويصدع فى وجوههم بما يؤذيهم تحت زعم أنه يقول الحق ولا ينافق وما فى قلبه على لسانه وأنه لا يخاف أحدا أو لا يخاف فى الله لومة لائم إلى غير ذلك من الحجج، فتجد هذا الإنسان كثير الأعداء، كما يستجلب الشر ويثيره على نفسه وعلى الآخرين وربما ضر دينه ودنياه فإذا كان هذا التعامل على المستوى العام وفى القيادات المسئولة أحدث شرا مستطيرا وخللا كبيرا وفتنا متطاولة ويفعل ذلك تحت مسمى الجهر بالحق ومدافعة الظلم إلى غير ذلك من الشعارات وكلمات الحق التى توضع فى غير موضعها وهذا خلاف السياسة الشرعية.

-         القسم الثانى عكس الأول تماما بل تجده يداهن وينافق الظالمين أو يزعم أنهم مؤيدون من الله وقد يداهن فى ظلم أو فساد ومعصية وقد يداهن فى كفر ونفاق فيكون عليه إثم ما داهن فيه وشجع عليه، ولقد أراد الكفار من الرسول المداهنة فى الحق فأبى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

-         القسم الثالث يتبع السياسة الشرعية وا?دلة من الكتاب والسنة، يدارى ولا يداهن، وقد دلنا الله فى كتابه على ذلك فأرسل موسى وهارون إلى أكفر أهل الأرض فرعون وقال : (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى?) وكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجارى المنافقين والعصاة ولا يواجههم بما يكرهون بل يلين لهم القول ويظهر لهم البشر ويقول القول الحسن للجميع :  (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ? وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ....) والإنسان منا يحتاج إلى هذه السياسة فى حياته الخاصة، تخيل لو أن إنسانا يكره امرأته أو امرأة تكره زوجها أو مرؤوسًا يكره رئيسه فى العمل، هل من الحكمة والحصافة أن يذكر له هذا الشعور بزعم أنه لا ينافق وما فى قلبه على لسانه وأنه يجهر بالحق أم أنه من الحكمة أن يتلطف له فى القول بل يذكر له خلاف ما يشعر كما دلت الأدلة على سبيل المثال على جواز الكذب فى حديث الرجل وامرأته والمرأة وزوجها وفى حالة الإصلاح بين الناس.
وما ذلك إلا لحرص الشريعة المطهرة على الإلف والإيلاف وجمع الشمل فمن باب أولى أن تستعمل تلك السياسة الشرعية على المستوى العام ومع أصحاب السلطان ندارى ولا نداهن، نقول الحق فى المناسب بألين عبارة وأجمل خطاب، لا نؤيد ظلما ولا فسادا ولكن نراعى مقتضى الحال ونقدر خطورة الكلمة ونراعى الواقع والقدرة والعجز، أسأل الله أن يجمع شملنا وأن يوحد صفنا وأن يرزقنا لين الجانب وحسن الكلام.