التجرد ضرورة فى العمل المؤسسى ( 1- 1)

  • 248

الدعوة الصادقة إلى الله-تعالى- هي سبيل كل داعية مخلص لتبليغ هذا الدين وتبصير الناس بأخلاقه وآدابه وأحكامه كما قال تعالى:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ }[يوسف : 108).

وكل دعوة تحتاج إلى دعاة يحملونها على أكتافهم،ويبلغونها إلى الناس،لكن ثمار هذه الدعوة مع هؤلاء الدعاة لا تؤتى ثمارها إلا إذا تجردوا لها،وأخلصوا لله رب العالمين،بحيث لا يكون لأي شيء نصيب غيرها.

فالتجرد معناه أن يتخلص المرء من هواه، وأن يَخلص نفسه لله، وأن يصطبغ بصبغة الله وإن شئت فقل: التجرد: أن تجعل نفسك وقفًا لله .

وقد تجرد قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لله لدعوته، وتجرد للبلاغ، ثم رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على التجرد لله، حتى خلت نفوسهم من حظوظ نفوسهم، وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة لله، والعمل لنصر دينه ونشر رسالته، فلما علم الله منهم ذلك مكَّن لهم في الأرض، ونصرهم بفضله.

ولأن مشاريع الدعوة كثيرة، وأعمالها متعددة، وأنشطتها متجددة، والإبداع فيها مطلوب، والابتكار في وسائلها مهم، والتنوع في أساليبها ضروري، ولأن هذا يعني تعدد الرؤى، وكثرة وجهات نظر، ومن ثم الاختلاف ومحاولة كل فريق إقناع الآخر، فإن خلق التجرد هو الخلق الذي يجعل قلوب فريق العمل على قلب رجل واحد، والمودة والمحبة هي التي تجمع بين نفوسهم، لأنه حين يعرض رأيه وهو متجرد لا يعنيه أأخذوا به أم لا، قبلوه أم رفضوه.

ذوبان الفرد فى المؤسسة

فالتجرد صفة من الصفات الأساسية وخلق من أخلاقيات العمل الجماعي والمؤسسى الذي لا يستقيم في غيابه عمل، ولا يستقر بدونه نشاط، ولا يتقدم بفقدانه مشروع، ولا ترتقي بدونه مؤسسة، فالمتجرد داخل فريق العمل يعمل الخير ويقول الحق لأنه يحب الخير لذاته، ويحترم الحق لذاته، فهو يدور مع الخير حيث دار، وينزل على الحق متى بدت معالمه، ويبتعد عن المماراة والمجادلة متى اتضح الهدف جليًا.

فهو لا يسعى للانتصار لرأيه، أو يستأثر بوجهة نظره، أو يسيطر بفكره على مجريات الأحداث، أو يوجه العمل من خلال سياسته التي يرى فيها الصواب.

وليس في هذا عيب وإنما العيب في أن يرى في آرائه الصواب المطلق وفي آراء غيره الخطأ المطلق، وفي وجهة نظره الحق وما دونها الباطل، وهذا بلا شك سيجعله يغضب لنفسه لا لله، وينتصر لرأيه لا لرأى الشورى، ومن ثم يقسم رفقاء الدرب قربًا وبعدًا حسب تعاطفهم مع رأيه، وتأييدهم لفكرته، ودفاعهم عن وجهة نظره.

ولنا فى رسول الله الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة, لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأى المجموع بالخروج لملاقاة قريش، رغم أنه كان يرى أن الأصلح والأفضل هو التحصن بالمدينة، فلم يكن هناك وحي ولا بينات تحسم الأمر؛ وذهب يتأهب للمعركة صلى الله عليه وسلم، وكان الناس ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فرُدوا الأمر إليه؛ فندموا جميعا على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول الله،ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغى لنبي إذا لبس لأْمَتَه -وهي الدرع- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2 / 45)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير وزيادته" 2075.

ولما وقعت الهزيمة، لم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم على أنهم لم ينزلوا على رأيه، ولم تنزل آية من القرآن تعاتبهم على ذلك، بل كان اللوم والعتاب على معصية منفكة عن القرار الذي اتخذ ( وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 152)؛ وأما القرار فقد أدوا ما عليهم وأبرأوا الذمة.
إنها المؤسسية في أروع صورها.