قوة الإرادة

  • 234

بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام علي رسول الله،

نريد من خلال هذه الكلمة تنبيه وإيقاظ كثير من إخواننا الذين تضعف إرادتهم وتخور عزائمهم إذا ما واجهوا المصاعب والشدائد ، وألقيت عليهم الشبهات .

فقوة الإرادة هي قوة العزيمة التي تحمل صاحبها علي استسهال الصعاب ، واقتحام الشدائد ومواجهة الفتن والشبهات؛  لنيل غرضه المطلوب من معالي الأمور.

وهي صفة محمودة في الشرع ، حتي أمر الله بها أكمل الناس "محمدا صلي الله عليه وسلم" فقال تعالي: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف :35 ) وأثني علي أهلها ، فقال تعالي : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) ( ص : 45 )، والأيدي هي القوة في الرأي والعزيمة في الأمر ، وقال تعالي : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم: 12)، وقال لموسى (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف: 145)، أي : اعملوا علي نشر كتابي وشرعي بقوة وعزيمة ، واجتنبوا الضعف والهزيمة في الرأي .

فأصحاب الإرادات القوية تتحقق لهم المطالب العالية لما يتصفون به من الإقدام وقوة العزيمة ، بخلاف أصحاب الإرادات الضعيفة والعزائم الرخوة؛ فإنه لا يكاد يتحقق لهم مراد .

فإنهم كلما هموا بأمر فجاءت الصعاب والشدائد والفتن والشبهات؛ تراجعوا وخارت عزائمهم إيثارا للراحة أو للسلامة كما يتأوله بعضهم؛ لذلك لا يكاد يتحقق لهم مراد .

وصدق الشاعر لما قال :

على قدر أهل العزم تأتى العزائم            وتأتى على قدر الكرام المكارم

ويعظم فى عين الصغير صغارها             ويصغر في عين العظيم العظائم

وقال آخر:

 تروم العز ثم تنام ليلا              يغوص البحر من طلب اللآلئ

والإرادة الضعيفة مذمومة؛ لما يترتب عليها من فساد الأمر وتشتت الرأي وضياع الخير ، ولعل من أعظم الأمثلة علي ذلك ، ما كان من حال الأبوين عليهما السلام وخروجهما من الجنة لما أضعف الشيطان إرادتهما وعزيمتهما ، كانت الخسارة الكبيرة وضياع المكاسب الكثيرة بالخروج من الجنة والنزول إلي الأرض ، يوم جاء الشيطان ووسوس وألقي الشبه  (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف: 20).

 وجملة المعني : أن ترك ما أنتما عليه والأكل من الشجرة هو الخير والأفضل ".. وظل يردد لهما ذلك ، بل ومن شدة الوسوسة والشبه ، أن لبس عليهما أن هذا من باب النصح وإرادة الخير حتي أقسم علي ذلك (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف: 21).

وكانت النتيجة المأساوية ، وهي خسارة النعيم والسرور ، والنزول إلي الأرض حيث الكدر والشرور! وندم الأبوان ، لكن فات الأوان  (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأعراف: 23 و24).

وصارت قصة ذلك حديثا يتلي في كتاب الله (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (طه: 115).

وأما الإرادات القوية والعزائم النافذة، فلا تجلب إلا المطالب العالية والمكاسب السامية .

ولقد ضرب النبي صلي الله عليه وسلم أروع الأمثلة في قوة الإرادة ونفاذ العزيمة ، فها هو في مكة يتحدي خصومة في ثبات وعزيمة علي ألا يترك ما هو عليه ولو فعلوا المستحيل .

فعن عقيل بن أبي طالب قال : أتت قريش إلى أبى طالب عم النبى صلى الله عليه و سلم فقالت : يا أبا طالب ، أرأيت محمدا يؤذينا فى نادينا وفى مسجدنا ، فانهه عن ذلك . فقال يا عقيل، ائتنى بمحمد ، قال فذهبت فأتيته به ، فقال : يا ابن أخى إن بنى عمك زعموا أنك تؤذيهم فى ناديهم ومسجدهم فانته عن ذلك، قال: فلحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: ما أنا بأقدر على أن أرد ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة يعنى الشمس، فقال أبو طالب: والله ما كذبني ابن أخى قط ، فارجعوا) ( رواه البخارى فى التاريخ الكبير وحسنه الألبانى ).

وها هو يوم الحديبية يضرب المثل الأروع علي قوة الإرادة ونفاذ العزيمة ، وثبات الموقف ولو واجهته الشدائد العظام حتي ولو صار وحيدا في مواجهة خصومه ، فلما جاء مبعوث قريش ليفاوض النبي صلي الله عليه وسلم قال له: ( .. فماذا تظن قريش؟ والله إنى لا أزال أجاهدهم على الذى بعثنى الله له حتى يظهره الله له، أو تنفرد هذه السالفة ) ( السالفة : صفحة العنق ، و المقصود : سأظل على عزمى ولو كنت وحدى حتى أموت ).

بل ضرب لنا سلف الأمة رضي الله عنهم الأمثلة الرائعة أيضا في قوة الإرادة ونفاذ العزيمة ، فها هو أبو بكر الصديق وقد اجتمعت عليه الشدائد والصعاب والفتن بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم بما تصفه عائشة رضي الله عنها تقول: " فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبى لهاضها ".

ولقد كان من هذه الشدائد ، مواجهة الآراء التي كانت تريد إيقاف جيش أسامة ، والذي كان النبي صلي الله عليه وسلم أمر بإخراجه إلي أعلي الجزيرة عند مؤتة قبل وفاته بأيام .

ولما مات النبي صلي الله عليه وسلم ارتدت العرب ومنع بعضهم الزكاة واشرئب النفاق ، فقال الصحابة لأبى بكر: (إن هؤلاء جل المسلمين ، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك وليس ينبغى لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين ، فقال : والذى نفس أبى بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت جيش أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته ) .

ولما كان ما كان من أمر مانعي الزكاة، واجتهد بعض الأفاضل من الصحابة بخلاف رأي أبي بكر وهو عدم قتالهم لشبهة أنهم يشهدون الشهادتين ، وقالوا : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم منى ماله ونفسه إلا بحقها  وحسابه على الله ؟ قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه ، قال عمر: فو الله ما هو أن رأيت أن الله شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق ) (رواه الشيخان وغيرهما ) .
 
ومن الأمثلة الرائعة أيضا ما كان من قوة إرادة الإمام أحمد ونفاذ عزيمته يوم فتنة "خَلْق القرآن"، وقد ضعف الناس عن مواجهة الأمراء المتبنين للبدعة ، حتي إن من العلماء من انزوي صيانة لعرضه ونفسه من الفتنة التي لا يتحملها ، لكن كان الإمام أحمد قويا ، ثابت الرأي لا يتردد حتي نصر الله به الدين والسنة.

وفي ختام الحديث، نريد أن ننبه بعض التنبيهات المهمة حول معني "قوة الإرادة" حتي ينضبط المعني ، ومن هذه التنبيهات :

1  ليس من قوة الإرادة الإقدام بلا علم شرعى : قال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار ) ( فالأيدى : هى القوة  ، والإبصار : هى البصيرة فى الدين ).

2  الحذر من التردد؛ فإنه يفسد الأمر و يضيع الرأى، يقول الشاعر :

إذا كنت ذا رأى فكن ذا عزيمة *** فإن فساد الرأى أن تترددا

ومثاله : رفض النبى صلى الله عليه وسلم تردد الشباب يوم أحد بين الخروج والبقاء؛ لما فيه من فساد الأمر ، قال صلى الله عليه و سلم: " إنه ليس لنبى إذا لبس لأَمَتَه أن يضهعا حتى يقاتل ) ( رواه أحمد ) .

3  قوة الإرادة و العزيمة فضل ومنة من الله ترجى بكثرة تعلق القلب بالله، قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ( آل عمران : 159).

وخلاصة الأمر فى تحصيل قوة الإرادة و نفاذ العزيمة اجتماع هذه الثلاث ،( علم وتوكل وقوة رأى ).

نسأل الله تعالي أن يثبتنا علي طاعته، وأن يجنبنا فساد الرأي وضعف الإرادة !