الالتزام بين الحقيقة والخيال (5)

  • 167

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ما زلنا نبحث عن مواطن الخلل حول شخصية المسلم الملتزم، وفى ضوء مطالعتنا لبعض الخلل الذى نريد أن نصلحه فى الفرد المسلم الملتزم، والارتقاء بالمستوى التعبدى والعلمى والسلوكى للمسلم الملتزم؛ نلاحظ أنه من الآفات أيضا:
 
-  حب التصدر لبعض الأعمال الدعوية وغيرها دون تكليف، كالإمامة والخطابة، ومثل أن يتولى ويتقلد بعض المواقع القيادية فى الكيان الدعوى أو الحزبى ونحو ذلك، أحد الإخوة منعه الإمام الراتب من الإمامة لأسباب شرعية؛ فغضب الأخ وترك المسجد وترك الإخوة.. وآخر كان يريد موقعا قياديا فى الكيان الدعوى فلم يتم اختياره فغضب غضبا شديدا لذلك!!
 
 أين التجرد لله؟! وكأن الإمامة عنده أصبحت من المناصب التشريفية، بل هو أمر تكليف فلا يصلح أن يتصارع عليه الناس! هذا خلل في الالتزام والتربية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن والله لا نولِّي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه» رواه مسلم، وهذا يكون في القيادة والإمارة وكذلك في الإمامة الصغرى. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَم وَعَبْدُ الخَميصة، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِط، تَعس وانتكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَش، طُوبَى لعَبدٍ آخذٍ بِعِنَانِ فَرَسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أشعثَ رأسُهُ، مُغَبَّرةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقة كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَع لَمْ يُشفَّعْ". (طوبى) من الطيب أي كانت له حياة طيبة وجزاء طيب. (بعنان) أى بلجام. (أشعث) متفرق الشعر غير مسرح. (إن كان في الحراسة) إن جُعل في مقدمة الجيش ليحرسه من العدو. (كان في الحراسة) وقام بها راضيا. وإن كان فى الساقة (والساقة) هى مؤخرة الجيش. كان أيضا، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى موقعه قط، لكن الذى يهمه أن يكون فى سبيل الله فحسب.
 
-  ومن الآفات الإعجاب بالنفس وتضخم الذات عندما يرضى الشخص عن نفسه ويعجب بها ويستعظمها، فإن هذا من شأنه أن ينعكس على خواطره وأفكاره وتصوراته، وسلوكه مع الآخرين، ومظاهر ذلك كثيرة نذكر منها.
 
-  كثرة الحديث عن النفس:
 فتجد أحدنا يُكثر من الحديث عن نفسه ويزكيها، وخاصة إذا أحس بتميزه في جانب ما.
 
فالأب يتفاخر بأولاده وبطريقة تربيته لهم. والموظف يتباهي بانضباطه في عمله وعدم تأخره ولو يومًا واحدًا عن موعد الحضور. والطالب يتحدث عن كفاءته في المذاكرة، وقدرته على الفهم وحل المسائل الصعبة. والداعية يُكثر من الحديث عن نفسه وإنجازاته، ومدى التفاف الناس حوله، وتأثرهم به.. وهكذا. ولقد كان الصحابة يخشون من هذه الآفة، فهذا عمر بن الخطاب يخاف أن يكون لديه بقية من كبر واستعظام النفس لكونه عربيًا، وأنه أفضل من سلمان الأعجمي؛ فأراد أن يمحوها ويتأكد من خلو نفسه منها بطلبه من سلمان أن يتزوج ابنته.
 
أخرج ابن المبارك في "الزهد" أن عمر بن الخطاب قال لسلمان:
 يا سلمان، ما أعلم من أمر الجاهلية شيئًا إلا وضعه الله عنا بالإسلام، إلا أنا لا ننكح إليكم ولا ننكحكم، فهلم فلنزوجنك ابنة الخطاب .. أفر والله من الكبر. قال سلمان: فتفر منه وتحمله عليّ .. لا حاجة لي به. (الزهد لابن المبارك).
                                                        
-  صعوبة التلقي من الغير أو قبول النصيحة:
 
ومن مظاهر (الأنا) أو تقديس الذات: عدم قدرة صاحبها على قبول النقد بسهولة في الشيء الذي يرى نفسه فيه، وكذلك عدم القدرة على الاستماع أو التلقي من الآخرين، أو قبول النصح منهم، وبخاصة في الأمور التي يشعر فيها بتميزه ونبوغه.. فمدرس اللغة العربية يصعب عليه تلقي معلومة في البلاغة مثلًا من شخص ليس في مجاله، وكذلك معلم القرآن، والمهندس، والطبيب، و...
 
إياك أن تأخذك العزة بالإثم، وأن تستنكف وتستكبر عن قبول النصيحة، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: "
 
أركَانَ الكفر أربعة: الكبر والحسد والْغَضَب والشهوة، فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النَّصِيحَة وبذلها، والْغَضَب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة".
 
عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: "أَبْغَضُ الْكَلاَمِ إِلىَ اللهِ عَزَّ وَجَلّ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ الله؛ فَيَقُول: عَلَيْكَ بِنَفْسِك". [صَحَّحَهُ الْعَلاَّمَةُ الأَلْبَانيُّ في "الصَّحِيحَةِ" بِرَقْم: 2598، وَرَوَاهُ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ في "الشُّعَب"].
 
ومن حرص السلف على النصيحة اتخاذ عمر بن عبد العزيز مجلس الشورى عندما تولى إمارة المدينة، اتخذ عمر بن عبد العزيز مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة فلم يقطع أمرًا بدونهم، بل كان دائمًا يطلب منهم النصح والمشورة؛ وهذا دليل ٌأوفي على خشيته لله تعالى وحرصه على قبول النصيحة في جنب الله تعالى. بِلاَ جِدَالٍ وَلاَ تَعَالٍ، ومنها أيضا:
 
-  المَنُّ بالعطايا:
 
من آثار رؤية النفس بعين الاستعظام، ونسيان أن الله عز وجل هو صاحب كل فضل ومنَّة: أن صاحبها لا يُعطي عطية لأحد، ولا يُقدم له خدمة إلا ويَمُنّ عليه بها وينتهز الفرصة المناسبة لتذكيره بخدماته وعطاياه، بل يعمل كذلك على استنطاق لسانه بمدحه وشكره، وقد يغضب منه إذا ما قصر في ذلك، ويصل به الأمر أحيانًا إلى أن يشكو لغيره على نكرانه للجميل. قال تعالى: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل: 78)، فالله تعالى هو الذى علمك ما لم تكن تعلم، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (البقرة: 264).
 
 فاحذر أخى المسلم من المن وطلب الثناء والشكر، واجعل العمل خالصا لوجه الله تعالى.
 
 وأنصحك بقراءة كتاب (حطِّم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا) لمجدي الهلالي؛ فهو كتاب ماتع وقد استفدت منه كثيرا.
ونستكمل فى المقال القادم بإذن الله تعالى. والله المستعان.