"وأعوذ بك من فتنة الغِنى وأعوذ بك من فتنة الفقر"

  • 311

"وأعوذ بك من فتنة الغِنى وأعوذ بك من فتنة الفقر"

 


هذا الحديثُ الشريف الذي يعالج قضية من أخطر قضايا البشرية على الإطلاق، وهي قضية الغِنى والفقر والأمراض التي تحصل لكل من الغني والفقير، فدلّ الحديث على أن هناك فتنتان يفتن الناس بهما:
فتنة الغنى والسّعة، وفتنة الفقر والضيق.

 

ومن الناس من يفشل في كلا الامتحانين؛ فمن الأغنياء -بل أكثرهم- يطغَون عندما يوسّع الله عليهم كما قال تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ" لأنه رأى نفسه مستغنيًا عن ربه عز وجل، ونسي فقره، ونسي نشأته الأولى عندما كان ترابًا أو كان نطفة من مَنِيٍ يُمنَى، نسي أنه ليس غنيًا في الحقيقة، بل إذا تأمل الإنسان نفسه تبين له أنه وُهِبَ له وجُعِل له، حياتُه كلها موهوبةٌ، سمعُه وبصرُه، قدرتُه وإرادتُه، يدُه ورِجلُه، عَقلُه وتفكيرُه، كل ذلك هبةٌ من الله لم يُحصِّلها بنفسه ولم يُحصِّلها له أبوه ولا أمُّه ولا أحد من الناس، ولم يكن عنده شيءٌ من ذلك يومًا من الأيام؛ فإن الإنسان يولد فقيرا قطعًا، وقبل ذلك هو أفقر وأفقر.

 

وهناك من إذا كان في الفقر يَنسى؛ ففتنة الفقر المُنسِي من أخطر الفتن، مع أن الفقر قد يكون وسيلة من أكثر وسائل تقريب العبد إلى الله، فإن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبيُّ ذكَر فضلَ الزهد في الدنيا وفضلَ الانشغالِ بمرضاةِ الله عن جميع حُطام الدنيا، حتى بوّبَ أهلُ العلم في فضلِ الفقرِ والفقراء.

فذلك يَدُلّنا على أن الغِنى والفقر كلاهما ابتلاءٌ من الله عز وجل.

 

وقضية الغِنى والفقر تشغل كلَّ العالم -لا أقول بعضَ العالم- كلُّ الناس مشغولون بقضية الأرزاق والأموال والتفاوت فيما أُعطيَ البعض، دون أن يتذكروا أن الله هو الذي قَسَم.

وبذلك نجد أن الصراع دائم مستمر على زخرف الحياة الدنيا، وعلى المال وعلى الرياسة وعلى الشهوات، والناس يدفعون دفعًا، ليلَ نهار، من خلال الإعلانات والترفيهات ووسائل الإعلام إلى أن ينالوا نصيبهم من الدنيا، وإلا فإنهم لا يعيشون، يوهمون بأن من لم يحصُل على السيارة الفارهة، والمحمول، والقصر المنيف، إذا لم يأكلوا أفضل الأطعمة المُعَدّة سلفًا، إذا لم يعيشوا حياتهم بهذه الطريقة  فإنهم لا يعيشون؛ حتى تَصوّر الناس أن أدنى التفاهات -لا أقول الكماليات- هي من ضروريات الحياة وأساسياتها التي لا يحتملون العيش بدونها، ولذلك هم يسيرون إلى عبودية المال وإلى من يعطيهم ذلك المال في ظنهم، وبالتالي يُباع كلُّ شيء بعرضٍ من الدنيا، نسأل الله العافية.

لذلك إذا استحضرنا أن الله هو الذي جعَل، هو الذي أَعطَى، هو الذي رَزَق، هو الذي قَسَم الأرزاق، وأن الله الذي وهب كل شيء بخَلقِه؛ كان ذلك دافعًا إلى أن نلجأ إليه هو، ونَصمِد إليه سبحانه، ونرغبُ فيما عنده ونرهبُ مما عنده، ولا يمكن أن يكون أكبر الهَمّ ومبلغ العلم هو الدنيا، "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنا ولا مبلغَ عِلمِنا"، بل يكون أكبر هَمّ الإنسان هو مرضاة الله عز وجل ومبلغ علمه في معرفته ومعرفة شرعه ومعرفة ما أَمَر به سبحانه وما نهَى عنه.

 

وأما فتنة الغِنى فإن فيها من أمراض الإعجاب بالنفس والكِبر، والحِرص والبُخل، وأكل الحرام وأكل أموال الناس بالباطل، والسعي إلى أن يكون الإنسان فوق الآخرين كما قال صاحب الجَنّتين لصاحبه وهو يحاوره "أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا"، وهذه أمراض إبليس التي تدمر الإنسان وتجعله تعيسًا في هذه الحياة قبل الشقاء الذي ينتظره في الآخرة، وفتح باب الحرام لأصحاب الأموال ليزدادوا غِنىً إلى غِناهم هو من الطغيان الذي حذّرنا الله عز وجل منه، وهو الذي يجلب أنواع الظلم والعدوان على الخلق لكي يزداد هو غنىً ويزداد الناس فقرًا، فيتعالى عليهم ويتكبر عليهم نعوذ بالله من ذلك.

 

وأما فتنة الفقر ففيها أمراض الحسد والغل والضغينة، والضيق بما قدّر الله سبحانه وتعالى، وشُهودُ أن الناس هم الذين يملِكون أمورهم بالمال والجاه، نحن بلا شك في أزمة اقتصادية خطيرة يترتب عليها من أنواع الصراعات والتنافس ما قد يؤدي إلى أن يقتل الأخ أخاه، وأن يَحسِد الجارُ جارَه وأن يسعى البعض إلى نجاة أنفسهم ولو بتدمير المجتمع !.

 

ونحن لابد لنا في معالجة فتنة الغِنى وفتنة الفقر أن نعالج أمراض قلوبنا، وأن ننشر روح التكافل والتعاون والبذل والتضحية، وألّا يتكسب الإنسان من أزمات الناس، وألّا يكون هناك طبقة تحتكر الغِنى والمال والسلطة، وتفرض على الناس إراداتها في القهر والإذلال والإهانة، ولابد وأن نجتهد في نشر روح الحب والوُدّ والتعاون والعطاء والجود والكرم والصدقة والإنفاق في سبيل الله.

 

نسأل الله عز وجل أن يفرج كربات المسلمين في كل مكان.