• الرئيسية
  • مقالات
  • (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (19) بعض أحكام عقد الأمان (10)

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (19) بعض أحكام عقد الأمان (10)

  • 225

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ورد في الموسوعة الكويتية أيضًا (ص 182-185) تحت عنوان: "مستأمن":

"قِصَاصُ الْمُسْتَأْمِنِ بِقَتْل الْمُسْلِمِ وَعَكْسُهُ:

43- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُقْتَل الْمُسْتَأْمِنُ بِقَتْل الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ بِقَتْل الذِّمِّيِّ، وَلَوْ مَعَ اخْتِلاَفِ أَدْيَانِهِمْ، لأِنَّ الْكُفْرَ يَجْمَعُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَاصِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمِنِ؛ لأِنَّ الأْعْلَى لاَ يُقْتَل بِالأْدْنَى؛ وَلِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرِ) (رواه البخاري)" (انتهى).

(قلتُ: وهذا الحديث أصل في هذا الباب كله، وهو قول جمهور أهل العلم).

"وَيُقْتَل الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمِنُ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ، كَمَا يُقْتَل الْمُسْتَأْمِنُ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ وَالذِّمِّيِّ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِقَتْل مُسْتَأْمِنٍ، لأِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول فِي حَقِّ الْقَاتِل مَحْقُونَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْمُسْتَأْمِنُ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةٌ، لأِنَّهُ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَال أَمَانِهِ فَقَطْ، وَلأِنَّهُ مِنْ دَارِ أَهْل الْحَرْبِ حُكْمًا؛ لِقَصْدِهِ الاِنْتِقَال إِلَيْهَا، فَلاَ يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دِيَةٌ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَل الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمِنِ، وَاسْتَدَل بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6).

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ يُقْتَل بِقَتْل مُسْتَأْمِنٍ آخَرَ قِيَاسًا، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ حَقْنُ الدَّمِ، وَلاَ يُقْتَل اسْتِحْسَانًا، لِقِيَامِ الْمُبِيحِ وَهُوَ عَزْمُهُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ بِالْعَوْد. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ يُقْتَل.

هَذَا فِي النَّفْسِ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الأْرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ" (انتهى).

(قلتُ: وعند الجمهور أنه لا مساواة في الأرش بيْن المسلم والذمي؛ فضلًا عن المستأمن، وكذا بيْن المسلم والكتابي).

"وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لأِنَّ جِنَايَةَ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِل كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِل مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ الأْدَبُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَل، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلاَ عَكْسَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لاَ يُقْتَل بِقَتْلِهِ، لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لأِنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلاَ يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ" (انتهى).

"دية المستأمن:

44- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْكِتَابِيِّ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ جِرَاحِ أَهْل الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ وَالْمُسْلِمَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ.

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ الْمُسْتَأْمِنِ الْكِتَابِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسًا وَغَيْرَهَا، وَدِيَةُ الْمُسْتَأْمِنِ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَعَابِدِ الْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقِ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ هَذَا فِي الذُّكُورِ. أَمَّا الْمُسْتَأْمِنَاتُ الإْنَاثُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَتَهُنَّ نِصْفُ دِيَةِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَكَانَ مُسْتَأْمِنًا، فَقَال الْبَهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ دِيَتَهُ دِيَةُ أَهْل دِينِهِ، لأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ دِينُهُ فَكَمَجُوسِيٍّ؛ لأِنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ" (انتهى).

"زِنَا الْمُسْتَأْمِنِ وَزِنَا الْمُسْلِمِ بِالْمُسْتَأْمِنَةِ:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْتَأْمِنِ إِذَا زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ الْمُسْتَأْمِنُ إِذَا زَنَى.

وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَتِ الْمُسْلِمَةُ طَائِعَةً فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً شَدِيدَةً، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ، وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْمُسْلِمَةَ فَإِنَّهُ يُقْتَل لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ.

وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُحَدُّ لأِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقْتَل لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلاَ يَجِبُ مَعَ الْقَتْل حَدٌّ سِوَاهُ.

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَأَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمِنَةِ فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُسْلِمُ دُونَ الْمُسْتَأْمِنَةِ لأِنَّ تَعَذُّرَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْتَأْمِنَةِ لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ فَلاَ يَمْنَعُ إِقَامَتُهُ عَلَى الرَّجُل، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ تُحَدُّ الْمُسْتَأْمِنَةُ أَيْضًا" (انتهى).  

(قلتُ: والصحيح وجوب إقامة الحد في الصور المختلفة؛ ذلك أن إقامة حد الزنا حق لله -سبحانه وتعالى-، فإذا أمكن إقامته وجب لحق الله -سبحانه وتعالى-).

"قَذْفُ الْمُسْتَأْمِنِ لِلْمُسْلِمِ:

46- لَوْ دَخَل حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا، لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأْوَّل، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لأِبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ" (انتهى).

 (قلتُ: والصحيح وجوب إقامة الحد عليه كالذمي؛ لأنه أدنى منه).

"سَرِقَةُ الْمُسْتَأْمِنِ مَال الْمُسْلِمِ وَعَكْسُهُ:

47- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ تَوَافُرُ شُرُوطٍ مِنْهَا: كَوْنُ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ؛ وَعَلَى هَذَا فَإِنْ سَرَقَ الْمُسْتَأْمِنُ مِنْ مُسْتَأْمِنٍ آخَرَ مَالاً لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ، وَأَمَّا إِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ.

فَإِنْ سَرَقَ الْمُسْلِمُ مَال الْمُسْتَأْمِنِ فَلاَ يُحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةَ -عَدَا زُفَرَ- وَالشَّافِعِيَّةِ، لأِنَّ فِي مَالِهِ شُبْهَةَ الإْبَاحَةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأِنَّ مَال الْمُسْتَأْمِنِ مَعْصُومٌ" (انتهى).

(قلتُ: وهذا الخلاف بين الفقهاء في إقامة حد السرقة على المستأمن مبني على اشتراط كون السارق ملتزمًا أحكام الإسلام، حتى تثبت ولاية الإمام عليه).

"وَلِذَا لاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لأِنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الإْسْلاَمِ، وَتَثْبُتُ وِلاَيَةُ الإْمَامِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ: فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ آخَرَ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ. وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ دُخُولَهُ فِي الأْمَانِ يَجْعَلُهُ مُلْتَزِمًا الأْحْكَامَ" .

(قلتُ: وهذا هو الصحيح في هذه المسألة).

"وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِأَحْكَامِ الإِسْلاَمِ، قال -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6).

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالْحَرْبِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ كَالذِّمِّيِّ. وَالثَّالِثُ: يُفَصَّل بِالنَّظَرِ إِلَى عَقْدِ الأْمَانِ: فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَإِلاَّ فَلاَ حَدَّ وَلاَ قَطْعَ" (انتهى).

"النَّظَرُ فِي قَضَايَا الْمُسْتَأْمِنِينَ:

48- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَوْ تَرَافَعَ إِلَيْنَا مُسْلِمٌ وَمُسْتَأْمِنٌ بِرِضَاهُمَا، أَوْ رِضَا أَحَدِهِمَا فِي نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا بِشَرْعِنَا، طَالِبًا كَانَ الْمُسْلِمُ أَوْ مَطْلُوبًا، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِقَوْلِهِمْ: لأِنَّهُ يَجِبُ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ لاَ يُمْكِنُ رَفْعُهُ إِلَى حَاكِمِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَلاَ يُمْكِنُ تَرْكُهُمَا مُتَنَازِعَيْنِ، فَرَدَدْنَا مَنْ مَعَ الْمُسْلِمِ إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ لأِنَّ الإْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ، وَلأِنَّ فِي تَرْكِ الإْجَابَةِ إِلَيْهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ طَرَفَا الدَّعْوَى غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَحَاكَمَ إِلَيْنَا مُسْتَأْمِنَانِ، أَوِ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خُيِّرَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَتَرْكِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (المائدة:42).

وَقَال مَالِكٌ: وَتَرْكُ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنْ تَتَّفِقَ مِلَّتَاهُمَا كَنَصْرَانِيَّيْنِ مَثَلاً، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اتِّفَاقُهُمَا، فَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا، لَمْ يُحْكَمْ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا حُكْمَنَا، وَرُوِيَ التَّخْيِيرُ عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ.

وَإِذَا حَكَمَ فَلاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بِحُكْمِ الإْسْلاَمِ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (المائدة:42)، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَّبِعَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِهِمْ، وَلاَ يَدْعُوهُمْ إِلَى  حُكْمِنَا، لِظَاهِرِ الآْيَةِ: (فَإِنْ جَاءُوكَ).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَرَافُعُ الْخَصْمَيْنِ، وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ.

غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ وَالأْخْتَيْنِ: يُشْتَرَطُ مَجِيئُهُمْ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ وَهُوَ مَجِيئُهُمْ، فَلاَ يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ.

وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يُشْتَرَطُ تَرَافُعُ الْخَصْمَيْنِ، بَل يَكْفِي لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا أَنْ يَرْفَعَ أَحَدُهُمَا الدَّعْوَى إِلَى الْقَاضِي الْمُسْلِمِ، لأِنَّهُ لَمَّا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الدَّعْوَى، فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الإْسْلاَمِ، فَيَلْزَمُ إِجْرَاءُ حُكْمِ الإْسْلاَمِ فِي حَقِّهِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الآْخَرِ كَمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا.

وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُشْتَرَطُ التَّرَافُعُ فِي الأْنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ أَصْلاً، وَيُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ تَرَافَعَا أَوْ لَمْ يَتَرَافَعَا، أَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة:49)، وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ الأْمْرَ مُطْلَقٌ عَنْ شَرْطِ الْمُرَافَعَةِ" (انتهى).