• الرئيسية
  • المقالات
  • مقالات في علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (12) الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات

مقالات في علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (12) الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات

  • 54

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال العلامة ابن الجزري -رحمه الله تعالى- في طيبة النشر فيما يتعلَّق بما ينبغي على حامل القرآن فعله، وهو: أن يجتهد في حفظه والعمل به، وإتقانه وضبطه، وتصحيحه على أكمل الوجوه، بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم:

وليجتهد فيه وفي تصحيحه              على الذي نُقِل من صحيحه

وقد ذكرتُ هذه المقدمة لابن الجزري؛ لأنها هي المدخل للكلام عن أركان القراءة، ولما ذكر رحمه الله الوجه الصحيح قال في نظمه طيبة النشر:

فـكـل ما وافـق وجه نحو                 وكان للرسم احتمالا يحوي

وصح إسنادًا هو القرآن                  فهذه الثــــــــلاثة الأركــان

والمعنى: إذا أردتَ القراءة المحكوم بقرآنيتها وعدم شذوذها؛ فهي القراءة التي استوفت الشروط الثلاثة، وهي: أن تكون موافقة لوجه من أوجه اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن التي نزل بها؛ مصداقًا لقول الله -تعالى-: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: 28)، وقوله -تعالى-: (وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (طه: 113)، وقوله -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل: 103).

فكل قراءة وافقتْ وجهًا من وجوه العربية، ولو لم يكن هذا الوجه هو الأشهر، حكم عليها بالقبول، وسواء كان هذا الوجه مختلفًا فيه أو مجمعًا عليه؛ فهذا لا يضر إذا كانت القراءة شاعت وذاعت، وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح؛ فكم من قراءة أنكرها نحويون ولم يُعتد بهذا الإنكار، بل أجمع الأئمة المقتدَى بهم مِن السَّلَف على قبولها.

والأمثلة الآتية تبين ذلك:

جاء لفظا: (بَارْئِكُمْ) و(يَأْمُرْكُم) بإسكان الراء، وكذلك بكسر الراء، وضمها في (يَأْمُرُكُم)، ولفظة: (مِن سَبَأْ) بإسكان الهمزة، وفتحها (مِن سَبَأَ)، وتنوينها مكسورة (مِن سَبَإٍ)، ولفظة: (يَا بُنَيْ) بإسكان الياء، و(يَا بُنَيَّ) في هود ويوسف ولقمان بفتح الياء، ولفظة: (وَكَذَٰلِكَ نُجِّيَ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الأنبياء؛ قرأ الشامي وشعبة بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم، والباقون بنونين، الأولى مضمومة والثانية ساكنة مع تخفيف الجيم، وكذلك الجمع بين الساكنين في قراءة ابن كثير في لفظ (وَلَاَ تَّعَاوَنُواْ) حيث قرأ الرواة عن ابن كثير في حالة الوصل بتشديد التاء وإشباع الألف، وكذا (وَلَاَ تَّنَازَعُواْ) في الأنفال، و(وَلَاَ تَّيَمَّمُواْ) في البقرة، وكذلك قوله: (لِلْمَلَائِكَةُ اسْجُدُوا)، حيث قرأ أبو جعفر المدني وصلا بضم التاء وقرأ الباقون بخفضها، وكذلك قوله: (أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ)، حيث قرأ الراوي عن ابن عامر الشامي بوجهين، وجه كحفص (أَفْئِدَةً)، والوجه الثاني قرأ بزيادة ياء بعد الهمزة (أَفْئِيدَةً)، وقوله -تعالى-: (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، حيث قرأ حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء المشهورين بخفض الميم في لفظ: (وَالْأَرْحَامِ)، والتقدير: "واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام"، وكذلك قراءة: (إِنْ هَٰذَانِ) بسكون النون وإثبات الألف في (هَٰذَانِ)، وقرئ بتشديد النون في (إِنَّ)، و(هَٰذَيْنِ) بياء ساكنة بعد الذال بدلًا من الألف، وتخفيف لفظة: (وَلَا تَتَّبِعَانِ) في سورة يونس، وقراءة كلمة (لَيْكَةَ) في سورتي: الشعراء وص، بفتح اللام وحذف الهمزة وفتح التاء، وفي الحجر وق رُسِمَت هكذا: (الْأَيْكَةِ).

قال عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو الأندلسي في كتابه: "جامع البيان": "وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتتْ عنهم، لم يردها قياس العربية، ولا فشو اللغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها".

قال البيهقي -رحمه الله-: "والمقصود بسنة متبعة أي: اتباع مَن قبلنا في الحروف، فلا يجوز مخالفة المصحف العثماني، ولا مخالفة المشهور من القراءات، وإن كان غير سائغ في اللغة" (الإتقان في علوم القرآن، 1/ 260 بتصرفٍ).

وقد عَلَّق بعض العلماء على كلام أبي عمرو السابق، ووصفه بأنه: "كلام قوي وله وجاهة، وقد أخذ علماء النحو قواعدهم من القرآن الكريم، وكلام العرب، فالقرآن هو الحاكم على علماء النحو، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ويجب على علماء النحو أن يراجعوا قواعدهم على القرآن، فالقرآن هو أقوى حجة للنحويين في إثبات ما يثبتونه ونفي ما ينفونه" (مناهل العرفان في علوم القرآن، 1/ 422 بتصرفٍ).

وللحديث بقية بإذن الله.