• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (109) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (13)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (109) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (13)

  • 53

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه فوائد: 

الفائدة الأولى: 

انتقل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في المناظرة مع قومه في  النظر إلى الأجرام السماوية من أقلِّها إضاءة إلى الأكبر منها، ثم إلى الأكبر مطلقًا وهي الشمس؛ ليلفت نظرهم إلى أنها رغم عِظَم نورها، وأنها الأكبر إضاءة إلا أنها تأفل وتغيب، وحاجة الإنسان إلى الإله المعبود، حاجة ضرورية فطرية لا يمكن أن يستغني عنها طرفة عين، وحاجته إلى إلهه الذي لا يغيب أشدُّ من حاجة بدنه إلى النَّفَس، والطعام والشراب، وطالما انتفتْ إلهيةُ كلِّ هذه الأجرام السماوية؛ فبالأولى انتفاء إلاهية رموزها الأرضية من الأصنام المصنوعة التي نَحَتهَا البشرُ بأيديهم، فكذا كل الملل التي تعبد أوثانًا ترمز إلى قوى عليا، كما يعبد النصارى الصليب رمزًا إلى تحرير الإنسان من الخطيئة -بزعمهم في صلب المسيح!-، وكما عَبَد المشركون الأوثان على أنها ترمز للملائكة؛ فهذا كله إذا ثبت بطلانُ إلهية هذه الأشياء السماوية، بطل عبادة رموزها الأرضية.

الفائدة الثانية:

فيه المسألة الكبرى والقضية العظمى في مسالة الإلهية، وهي: البراءة مِن كلِّ ما يُعبَد من دون الله، واعتقاد بطلان عبادة أي إله مِن دونه، وهي المسألة التي هي أصل الخلاف بين الرسل وبين أقوامهم وبين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وقومه، وبين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- والمشركين من قريش، وغيرهم؛ لأن عامة الأمم تقرُّ بوجود الخالق -سبحانه-، وندر مَن ينكر وجوده: كالملاحدة، وفرعون، والدهرية، وأكثرهم يقر في الباطن بوجوده، ولكن يجحده لفظًا: (‌وَجَحَدُوا ‌بِهَا ‌وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل: 14)، لكن أكثر الأمم مع إقرارهم بوجود الله يتخذون آلهة من دونه منهم يعبدها على سبيل المساواة كالمجوس الذين يعبدون إلهين اثنين: إلهًا للنور، وإلهًا للظلمة، مع أنهم يفضِّلون النور على الظلمة؛ ولذا عبدوا النار التي ترمز إلى مصدر النور عندهم، وكالنصارى الذين يجعلون الأقانيم الثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس متساوية في الجوهر! وإن كان كلُّ عاقلٍ يسمع ما يسمونه: "قانون الإيمان المسيحي"، يقطع بأنه يفضِّل الآب؛ لأنه مصدر الولادة والانبثاق، ويصفونه بصفات الخلق والضبط للكون؛ فجاء في هذا القانون -عندهم-: "خالق الكل، ضابط ما يَرى وما لا يُرى"، ولا يصفون المسيح والروح القدس بهذه الصفات إلا مِن باب التلازم، ومِن المشركين مَن يتخذ آلهة دون الإله الأعظم مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، كمشركي قريش في قولهم: (‌مَا ‌نَعْبُدُهُمْ ‌إِلَّا ‌لِيُقَرِّبُونَا ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌زُلْفَى) (الزمر: 3)، قال -تعالى-: (‌وَيَعْبُدُونَ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ ‌مَا ‌لَا ‌يَضُرُّهُمْ ‌وَلَا ‌يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18).

وفي الصحيح قول المشركين في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريك هو لك، ملكته وما ملك"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم عند قولهم: "لا شريك لك": "قد قد"، أي: اكتفوا بذلك. 

وكل الأديان الأرضية تجعل الآلهة المحسوسة: كالبقرة عند الهندوس، وبوذا عند البوذيين، إنما هي وسائط للإله الأكبر، وكل هؤلاء حَكَم الله بكفرهم في جميع كتبه المنزلة، وعلى ألسنة جميع رسله، قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ ‌مِنْ ‌رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25)، ولا يحصل الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، قال -تعالى-: (‌فَمَنْ ‌يَكْفُرْ ‌بِالطَّاغُوتِ ‌وَيُؤْمِنْ ‌بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)؛ ولذلك بدأت كلمة: "لا إله إلا الله" بالنفي قَبْل الإثبات؛ فلا يحصل أصلُ الإيمان والإسلام إلا بالبراءة مِن كلِّ ما يعبد مِن دون الله، وبالبراءة مِن كلِّ ملة سوى الدِّين الحق؛ وذلك باعتقاد عدم إلهية ما يعبد مِن دون الله، وبغض مَن يرضى بأن يُعبَد منها، وبغض مَن يعبدها ومعاداته مِن أجل ذلك؛ لا مِن أجل المصالح الدنيوية، والتصريح ببطلان عبادتها باللسان. 

ثم بذل كل جهد في إزالة عبادتها من الأرض بالقول والحجة والبيان، ثم بالقوة والسنان؛ حسب القدرة، وحسب تشريع ذلك في الشرائع المختلفة، والأوقات المختلفة. 

وقد تكررت هذه المسألة عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من أنبياء الله جميعًا في مواضع كثيرة من القرآن، قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ ‌لِأَبِيهِ ‌وَقَوْمِهِ ‌إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 26-28)، أي: جَعَلَ اللهُ كلمةَ: "لا إله إلا الله" -التي هي حقيقة: (‌إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)- كلمةً باقيةً في نَسْل إبراهيم لا يزال في ذريته مَن يقولها كما قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-. 

وقال -تعالى-: ( ‌قَدْ ‌كَانَتْ ‌لَكُمْ ‌أُسْوَةٌ ‌حَسَنَةٌ ‌فِي ‌إِبْرَاهِيمَ ‌وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5)، وقال -تعالى-: (‌قُلْ ‌إِنَّنِي ‌هَدَانِي ‌رَبِّي ‌إِلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ ‌دِينًا ‌قِيَمًا ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا ‌وَمَا ‌كَانَ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161)

ونفي الشرك ضرورة لتحقيق الإيمان والإسلام، وليست حقيقة الإيمان تثبت بمجرد إثبات وجود الله -كما يظنه كثيرٌ من الناس!-، بل ولا إثبات صفات كمال له دون أن يفرده بالإلهية؛ فكلا النوعين من التوحيد متلازمان: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي الذي يلتزم النوع الثاني، وهو: توحيد القصد والإرادة والطلب، وأفعال العباد، فتوحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، لا بد معه -حتى ينجو الإنسان مِن النار ومِن غضب الله وسخطه-: أن يُفردَ اللهُ -عز وجل- بأفعال العبد: بالحب والخوف، والرجاء، والصبر، والشكر، والإخلاص، والإخبات، والإنابة والخضوع، وسائر عبادات القلب، والركوع والسجود والقيام والطواف، والذبح والنذر، والحلف والدعاء، والاستغاثة والاستعانة؛ فكل هذه العبادات -وغيرها- لا بد أن يُفردَ اللهُ -عز وجل- بها، ولا تصرف لأحدٍ غيره وإلا كان شركًا في الألوهية؛ حتى ولو أقرَّ بأنه هو الخالق -سبحانه-، ولقد كان اليهود والنصارى يعبدون الأحبار والرهبان مِن دون الله وهم لا يسمون ما يفعلون عبادة، لكنهم قد أحلوا لهم الحرام، وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي والبيهقي، وصححه الألباني).

الفائدة الثالثة: 

هذه الآية الكريمة تهدم هدمًا كاملًا كليًّا، ما اخترعه كفارُ زماننا وزنادقتهم ممَّا سموه زورًا وبهتانًا: "الدِّين الإبراهيمي الجديد!"، القائم على مساواة الملل، وإن بدأوا بالأديان الثلاثة: -اليهودية والنصرانية والإسلام-، لكنهم يقررون مساواة جميع الملل ويصوبونها كلها، وهي بدعة كفرية شركية اخترعها الأوروبيون منذ الثورة الفرنسية، واستغلها اليهود وروَّجوا لها؛ لهدم جميع الأديان ليبقى لهم دينهم في ظنهم، وهم لا يتأثرون بهذه الدعوات -بتوحيد الأديان والملل-؛ لأنهم لا يقبلون غير دينهم الذي يتعصبون له. 

وللحديث بقية -إن شاء الله-.