العمل الجماعي المؤسسي .. وبناء الأمم (2)

  • 127

قلت ولا زلت أكرر أن جميع المصلحين، والمجددين رحمهم الله الذين فتح الله عز وجل بهم البلاد وكانوا سببا في نشر التوحيد في ربوع الارض، كانوا أصحاب فقه عظيم، عرفوا المقاصد العامة للشريعة، وجواز –بل وجوب- كل ما يحقق هذه المقاصد وإن لم تنص عليه، وعرفوا أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فانخلعوا عن الفردية حيث اقتضى الأمر هذا الانخلاع وتكاتفوا، وعملوا عملا جماعيًا، إذ أن الفردية تموت بموت أصحابها، فضلا عن ما تحمله من آفات وأمراض قلبية، نسأل الله أن يعافينا ..

بل وأوضح هؤلاء العلماء مشروعية بل واهمية العمل الجماعي ، مهما تسمى هذا العمل الجماعي بأسماء مختلفة، كالجماعة، او الحزب، أو المدرسة، او غير ذلك ..
وقد تستغرب أشد الاستغراب حين تعلم أن تسويغ إنشاء الجماعات العاملة لغايات شرعية، وتسويغ مثل هذه الاصطلاحات التي تظنها حديثة، قد ورد في كلام الفقهاء والأئمة القدماء، مما يعطينا صورة واضحة عما تحوي بطون الكتب الفقهية من فقه حركي إسلامي مجهول لدينا ينتظر من ينتزعه منها وينشره للدعاة وللعاملين من أبناء هذه الصحوة ..

ومن هؤلاء المجددين بل وعلي رأسهم، شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله وطيب الله ثراه . الذي تكلم عن هذه القضية العظيمة كلاما رائعا..
يقول رحمه الله :-

(وأما لفظ "الزعيم" فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: "وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ" فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير: كان محمودا على ذلك، وإن كان شرًا: كان مذموما على ذلك ...

وأما "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل: فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان "مجموع الفتاوى 11/92)
كلام نفيس، لشيخ الإسلام رحمه الله ... بل إنه من أثمن النصوص التي تدحض رأي من يرى أن العمل الجماعي بدعة غريبة على الأساليب الإسلامية !!!!.

وإنه لنص رائع يحفز الدعاة لجمع أمثاله وجعلها محور فقه الدعوة، فتحوز الدعوة رسوخا جديدًا، بما تملكه هذه النصوص من هيبة قائليها، وبما تؤدي إليه من القيام بدور القول الفصل حين يسارع مستعجل واهم إلى تبديع من يعمل من دعاة الإسلام عملا جماعيا مع أصحاب له من الدعاة إلى الله عزجل.. لا سيما الآن في ظل تصدر السفهاء والتكفيرين، ولا حول ولا قوة الا بالله.

وسؤالي الذي أطرحه الآن وأري انه من الاهمية بمكان .. أني يكون في العمل الجماعي نوع بدعة وهو الأصل الموروث عن الأنبياء عليهم السلام ؟؟؟؟؟
قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
قال ابن القيم: (قال الفراء وجماعة: ومن اتبعني معطوف على الضمير في أدعو، يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو).
قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير)ٌ
قال ابن القيم: (فالربيون هنا: الجماعات، بإجماع المفسرين).
فالأنبياء عليهم السلام قاتل معهم الألوف، وسيرة خاتم المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم واضحة ـ، وورثة هذا النبي، وأؤلئك الأنبياء وهم الدعاة إلي الله عز وجل، لهم أسوة حسنة بهم، لا يتفردون، بل يسيرون ألوفا وجماعات ..
رحم الله شيخ الإسلام بن تيمية وطيب الله ثراه ..
ولقد أنصف الإمام بهاء الدين السبكي رحمه الله، عندما سئل عن ابن تيمية رحمه الله فقال :-
" والله يا فلان ما يبغض شيخ الإسلام ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به "
ومن أجل ذلك، عودي شيخ الإسلام رحمه الله، بل وكفره بعض سفهاء زمانه، وحاربوه واتهموه بشق صفوف المسلمين، وتفرقتهم ..
وسبحان الله .. هيهات هيهات ..
مكن الله لشيخ الإسلام، وفتح الله به، وكتب له القبول في الأرض ..
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ..
يتبع إن شاء الله ..