بعد أسبوع من ضراوة الحصار وقوته
وصلت سفن وإمدادات إلى ميناء يافا واقترب الصليبيون من أرسوف ومرَّت الأيام
الصعبة، والعالم الإسلامي يشاهد الجريمة في صمت، أفضى في النهاية إلى أن احتل
الصليبيون القدس وارتكبوا مذبحة رهيبة قتلوا فيها معظم سكانها، ثم حولوا مسجد قبة
الصخرة إلى ما يسمى بـ "كنيسة السيد المسيح"؛ أما المسجد الأقصى فحولوا
جزءًا منه إلى كنيسة، والجزء الآخر إلى مسكن لفرسان "الداوية"، وبنوا
فيه مستودعًا للأسلحة، واستخدموا السراديب السفلى للمسجد إسطبلات للخيول؛ وهي
المعروفة باسم "الأقصى القديم، والمصلى المرواني"، واستمر الاحتلال
الصليبي للمدينة 88 سنة.
وبحسب كتاب "الكامل في
التاريخ" لابن الأثير، استطاع الصليبيون فتح أبواب المدينة من الداخل، ومن
ثَمَّ تدفَّق الصليبيون بغزارة داخل المدينة المقدسة.
دخل الصليبيون بأعداد هائلة فتبعت
ذلك مذابح جماعية رهيبة للمسلمين وسكان المدينة حتى أصبح البلد مخاضة واسعة من
الدماء، أثارت الرعب والاشمئزاز، بل وذكر مؤرخ معاصر للحروب الصليبية أنه عندما
زار الحرم الشريف غداة المذبحة الرهيبة التي أحدثها الصليبيون فيه، لم يستطع أن
يشقَّ طريقه وسط أشلاء إلا في صعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه.
ما يسمى بـ "بابا
الكاثوليك" يدعو لاحتلال القدس
في كل هذه المشاهد الضبابية التي
يغلب عليها البعد عن الدين والتفرق، قام بابا الكنيسة الكاثوليكية أوربان الثاني
في 27 نوفمبر 1095م في ذي القعدة 488هـ، ودعا البابا في خطابه أهلَ أوروبا إلى
القيام بحملة مسلحة تحت شعار "الصليب" لنجدة إخوانهم في بيزنطة من
"الأتراك"، ولـ "تحرير" البلاد المقدسة من براثن
"الكفّار" المسلمين. وينقل المؤرخ والقسيس المشارك في الحملة الصليبية
الأولى فوشيه الشارتري (ت 521هـ/1127م) في تاريخه خطبة أوربان؛ فكان مما جاء فيها:
"عليكم أن تسارعوا لمد يد
العون لإخوانكم القاطنين في المشرق..، إن الأتراك قد هاجموهم كما يعلم الكثيرون
منكم، وتقدموا داخل الأراضي الرومانية (البيزنطية بالأناضول) إلى أن وصلوا إلى ذلك
الجزء من البحر المتوسط..، لقد انتزعوا شيئًا فشيئًا من أراضي المسيحيين، كما وهزموهم
في سبع معارك حتى الآن…؛ لذا -وبصلاة خاشعة- فإنني، لا بل إن الله -وليس أنا-
يحثّكم يا جنود المسيح على أن تحضّوا الرجال مهما كانت مراتبهم -فرسانًا كانوا أم
مشاة أغنياء كانوا أم فقراء- أن يسارعوا لسحق هذا الجنس الخسيس من أراضينا"!
نظرة عامة على العالم الإسلامي
وبالعودة قليلًا إلى واقع العالم
الإسلامي قبل الاحتلال بنصف قرن، كانت الفوضى والنزاع هي السمة الغالبة على
المشهد، فقد اختفت الدولة البويهية التي كانت تحكم العراق، وحلت بديلًا لها الدولة
السلجوقية، التي أصبحت دولة مترامية الأطراف من آسيا إلى البحر المتوسط.
إلا أن مصر كانت تحت حكم الدولة
الباطنية التي اتسمت بالبدعة والكفر والبعد عن الكتاب والسنة.
كان الهجوم متزامنًا على الأندلس
وفلسطين حيث بدأت أوروبا في الهجمات الصليبية على المشرق، مع حروب الاسترداد
الإسبانية في الأندلس، حتى كانت النتيجة الأولى سقوط طليطلة سنة 478 هـ 1085م،
واستكمال المسيحيين سيطرتهم على جزيرة صقلية سنة 484هـ/1091م.
بداية احتلال المشرق
مع بدايات تدفق الحملات الصليبية
على الشرق الإسلامي، نجحت في احتلال بلاد الشام وسواحلها لمدة قرنين كاملين، أسسوا
فيها أربع إمارات صليبية هي:
الرهابين حلب والموصل عام 1098،
وأنطاكية 1089م ، وطرابلس 1109، مملكة بيت المقدس يوليو 1099م، وهكذا بدأ
الاحتلال.
مذبحة الصليبيين في بيت المقدس
استباح الصليبيون مدينة بيت
المقدس وفر السكان إلى الاعتصام بالمسجد الأقصى؛ لعل الصليبيين يحترمون قدسيته لكن
هذه المعاني لم تثنهم عن جريمتهم النكراء فقتلوا أكثر من سبعين ألف مسلم، ما بين
رجل وامرأة وطفل ولم ينجُ منهم إلا القليل!.
بالتزامن مع ما مر من أحداث
ومشاهد تركت بصمات مؤلمة وبالغة القسوة في ذاكرة المسلمين توارثتها الأجيال من عقد
إلى آخر.. ها هم الرجال أتوا يا فلسطين، فلسطين تعاني اليوم أنات الخزي والعار
والتطبيع من بعض الأنظمة وكأنها تطلب من حكام العرب والمسلمين أن اتحدوا وهبّوا
لنجدة المسجد الأقصى الأسير من دنس اليهود الغاصبين.
ظهور عماد الدين زنكي
قتل والد عماد الدين وعمره عشر
سنوات، وقام على تربيته أصدقاء والده "كربُغا" ملك الموصل، ثم شمس
الدولة جكرمش، ليخرج قائدًا ذا تربية عسكرية وخلقية، والتي نتج عنها ما سيحدث من
تحرير، تولى عماد الدين ولاية الموصل، يقول ابن الأثير "كانت مملكة الفرنج
حينئذ قد امتدت من ناحية ماردين وشبختان (جنوب شرق تركيا) إلى عريش مصر، لم يتخلله
من ولاية المسلمين غير حلب وحمص وحماة ودمشق، وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى
آمد، ومن ديار الجزيرة إلى نَصِيبِين (جنوب تركيا) ورأس العين (شمال سوريا)،
وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة (مدينة الميادين اليوم) والبر، ثم زاد
الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على كل بلد جاورهم خراجًا وإتاوة يأخذونها منهم ليكفّوا
أيديهم عن سكانها!!
عماد الدين أسقط أول إمارة صليبية
أدرك عماد الدين خطورة الصليبيين
فبدأ بتوحيد الجبهات، ووضع خطة التوحيد والتحرير لتتسع مملكته، وبدأ عماد الدين في
1144 بإسقاط أول إمارة صليبية تأسست في المنطقة الإسلامية شمال الشام، حين رفع
إليه جهاز استخباراته خبرًا يفيد بأن أمير الرُّها الصليبي جوسلين الثاني خرج
مسافرًا عنها؛ فعندها "نزل زنكي على الرُّها فنصب عليها المجانيق، ونقَب
سورها وطرح فيه الحطب والنّار فانهدم، ودخلها فحاربهم ونُصِر المسلمون..، وخلّص منها
"خمسمائة أسير" من المسلمين كانوا محتجزين فيها.
نور الدين يقتفي أثر والده
اتبع نور الدين زنكي أثر والده،
فظل طوال ثمانية وعشرين عاماً في قتال للصليبيين، ففي عام تمكن نور الدين محمود من
توحيد جناحيْ الشام حلب ودمشق وما بينهما؛ فقد استطاع محاصرة دمشق مرتين وفتحها في
الثالثة خلال هذه السنة، بعد أن "امتنع الأجنادُ والرعية من الممانعة لما هم
عليه من المحبة لنور الدين وعدله وحُسن ذكره، وبادر بعضُ قطّاعي الخشب بفأسه إلى
الباب الشرقي لدمشق فكسر إغلاقه وفتحــه فدخل منه العسكر، ليتم فتحها.
صلاح الدين الأيوبي يقطع دابر
الصليبيين
بدأ ظهور نجم الدين أيوب والد
صلاح الدين، بمعاونته لعماد الدين زنكي، ومع مرور الوقت تقرب أكثر من نور الدين،
وبدأ ظهور نجم صلاح الدين، فأرسل نور الدين صلاح الدين لمنع الفرنجة من احتلال مصر
سنة 1169، وكان هدفهم أن تكون مصر تحت حكم الزنكيين، لقطع أي أحلام للصليبيين
فيها، وسيطر صلاح الدين على مصر وأصبح
وزيرها وتحقق حلم نور الدين بتوحيد مصر والشام ونهاية حكم الدولة العبيدية.
صلاح الدين يكمل العمل
استمر صلاح الدين فيما بدأه عماد
الدين ونور الدين، في توسع جبهة التحرر، وتمكَّن صلاح الدين من توحيد مصر والشام
والجزيرة الفراتية والحجاز وحتى اليمن جنوبًا وإقليم برقة كاملًا بليبيا غربًا،
وأعانه على ذلك ما كان يتحلى به من سمات القيادة العبقرية والحازمة؛ قال الذهبي:
"كانت له همة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد ما سُمع بمثلها لأحد في
دهر"!!
معركة حطين والفتح المبين
يقول ابن واصل عن معركة حطين:
مُذْ ملَك الفرنجُ البلادَ الساحلية واستولوا عليها لم يقع للمسلمين معهم يومٌ
كيومِ حطين"
ففي 1099 احتل الصليبيون القدس
وارتكبوا مذابح رهيبة قتلوا فيها معظم سكانها، ورفعوا الصليب على قبة الصخرة،
وتحول المسجد إلى إسطبلات للحيوانات.
وفي 1187م: حرر صلاح الدين
الأيوبي المدينة من الصليبيين، وأمر بترميم أسوارها؛ ولكن الصليبيين تمكنوا من
السيطرة عليها لفترات قصيرة، أكثر من مرّة، أيام الأيوبيين؛ كما تم هدم أسوارها
وإعادة بنائها في زمنهم.
الخطبة الأولى بعد التحرير الأول
قال قاضي القضاة محيي الدين ابن
الزكي الشافعي بمحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي في أول جمعة أقيمت بالمسجد الأقصى
بعد تحريره من الصليبيين سنة 583هـ/1187م: لقد أنقذتم "المسجد الأقصى الذي..
هو أولى القبلتين وثاني المسجدين وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة
مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى".
فطوبَى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات
النبوية والوقعات البدْرية، والعزمات الصديقية والفتوحات العمرية، والجيوش
العثمانية والفتكات العلوية! جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية،
والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية؛ فجزاكم الله عن نبيه محمد ﷺ أفضل الجزاء،
وشكر لكم ما بذلتموه من مُهَجِكم في مقارعة الأعداء"!!
عقود من المعاناة وواقع مؤلم
واقع مؤلم تشهده الأراضي المحتلة
تصاعدت حدته مع مجيئ مجرم الحرب بنيامين نتنياهو الذي يريد الفكاك من الفشل
الداخلي للتغطية على ملاحقته القضائية بتعديل قوانين لها علاقة بذلك.
فأصدر العديد من القرارات الواحد
تلو الآخر إما بالتوسع في مصادرة الأملاك والأراضي أو بناء مستوطنات أو استهداف
الناشطين وفصائل المقاومة.
فبعد اقتحام جنين وسقوط عشرات من
الشباب الفلسطيني فضلًا عن مئات الإصابات.. واصل الاحتلال جرائمه البشعة الثلاثاء
الماضي بإخلاء منزل عائلة "صب لبن" في قلب القدس، هذا الأمر الذي لا
يعدو إلا أنه جريمة نكراء، وهي مجرد تكامل لما يقوم به الاحتلال لتنفيذ السياسات التهويدية
والاستيطانية ولا سيما سياسة الطرد والتهجير.
فقد تواطأت المحكمة العليا
الإسرائيلية مع منظمة جاليستيا الاستيطانية وأجهزة الاحتلال الأمنية بغطاء من
الحكومة اليمينية المتطرفة لتنفيذ هذا القرار.
وقال محمد حمادة الناطق باسم حركة
حماس بالقدس: "إن استيلاء الاحتلال على منزل عائلة صب لبن، وانتزاعهم من
بيتهم لإحلال قطعان المستوطنين فيه، هو جريمة حرب وعدوان سافر على حق وجود المقدسي
في بيته ومدينته".
وتابع "حمادة" في
تصريحات خاصة للفتح: "إن فاشية الاحتلال وسعيه إلى تهجير أهلنا من القدس،
مسألة لن تفلح في دفع المقدسيين إلى ترك مدينتهم، ولا مسجدهم الأقصى".
ماذا يريد الاحتلال من المقدسيين؟
قال معروف الرفاعي، مستشار محافظ
القدس في تصريحات خاصة للفتح: "الاحتلال يسعى جاهداً إلى أن يفرّغ المواطنين
العرب من مدينة القدس، ويسعى إلى أن تكون نسبة سكان العرب في هذه المدينة أقل من
10% خلال 25 سنة المقبلة، الآن العرب نسبتهم تقريباً 32% للأسف، من مليون نسمة
داخل مدينة القدس، عندنا تقريباً 350 ألف عربي مقابل 650 ألف يهودي في مدينة
القدس، وإسرائيل تسعى إلى تخفيض هذه النسبة أيضاً إلى أقل من 10% في الخطة
المعروفة القدس 250، إسرائيل تسعى إلى أن يكون عدد سكان مدينة القدس الكبرى كما
يقولون 5 ملايين نسمة ونسبة العرب فيها أقل من 10%، تريد أن تكون لهذه المدينة
سياحة أكثر من 12 مليون نسمة، تسعى إلى إيجاد مطار في شرق مدينة القدس، مطار هو
الأضخم على مستوى الشرق الأوسط، وبالتالي هناك خطة ممنهجة لتوسيع مدينة القدس
جنوباً وشرقاً وغرباً، وتوحيد ما يعرف بالقدس الشرقية والقدس الغربية، في مسمى
العاصمة الكبرى لدولة الاحتلال، وبالتالي هي ساعية بكل إمكانياتها للتضييق على
الشبان العرب وعلى السكان العرب، للخروج من مدينة القدس تارة بالتهويد وتارة
بالهدم، وتارة بالتضييق وعدم إعطاء التراخيص للبناء".
كل هذا يذكرنا بما كان، وكيف تم
الاحتلال الأول، وكيف تم التحرير الأول، ليكون نبراسًا للتحرير الثاني.. وعما قريب
سيكون بمشيئة الله
