دروس وعبر من الأزمة

  • 214

أهم الدروس التى نستفيدها من الأزمة الحالية التى نعيشها، هي مسألة التعلق بالدنيا وأثره في السلوكيات والتصرفات, قد يتعجب البعض من هذا العنوان ويقول كيف تتكلم عن التعلق بالدنيا وأنت تتحدث عن تيار موصوف بأنه إسلامي وغرضه نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، ويبتغى مرضات الله وتطبيق شرعه وأمره, أليس هذا تناقضا؟!

ليس عجيبا أن تدخل الدنيا إلى القلوب حتى ولو كانت قلوب الصالحين, وقد حدث هذا في غزوة أحد مع سادات الصالحين رضي الله عنهم أجمعين، لمَّا رأى الرماة رضي الله عنهم هزيمة المشركين، ورأوا الغنائم في أرض المعركة؛ جذبهم ذلك إلى ترك مواقعهم ظنّا منهم أن المعركة انتهت، فقالوا لأميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه: (الغنيمة! أي قومِ الغنيمة! ظهر أصحابكم؛ فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة).
 
ثم انطلقوا يجمعـون الغنائم ولم يعبؤوا بقول أميرهم. ووصف ابن عباس رضي الله عنهما حال الرماة في ذلك الموقف، فقال: (فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم  وأباحوا عسكر المشركين، أكبَّت الرماة جميعا في المعسكر ينهبون، ولقد التقت صفوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا، (وشبك بين يديه) وانتشبوا، فلما أخلَّ الرماة تلك الخَلَّة التي كانوا فيها؛ دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛  فضرب بعضهم بعضا، والتبسوا وقُتل من المسلمين ناس كثير).

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ? مِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ الدُّنْيَا ? [آل عمران: 251]: "الدنيا" يعني: الغنيمة. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي  صلى الله عليه وسلم  يريد الدنيا وعَرَضَها حتى كان يوم أحد. ? وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ? [آل عمران: 251]، وهم الذين ثبتوا في مراكزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم).

وقال ابن عباس رضي الله عنه: (لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة : " أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم؛ فتكون لهم دونكم "، وقال بعضهم : " لا نبرح حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم"؛ فنزلت: {مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ }.
 
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن حديث "حب الدنيا رأس كل خطيئة": (ليس هذا محفوظا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن هو معروف عن جندب بن عبد الله البجلى من الصحابة، ويذكر عن المسيح ابن مريم عليه السلام، وأكثر ما يغلو في هذا اللفظ المتفلسفة، ومن حذا حذوهم من الصوفية على أصلهم، في تعلق النفس إلى أمور ليس هذا موضع بسطها)‏.
 
‏‏ وأما حكم الإسلام في ذلك،‏ فالذي يعاقب الرجل عليه الحب الذي يستلزم المعاصي؛‏ فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا، كما في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏إياكم والشُّحَّ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا‏"، وعن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏"‏ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه‏"، قال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏
فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين.
إذن لو دخلت الدنيا فى القلوب (وليس هذا مستبعدا عن قلوب ضعيفة مثل قلوبنا)؛ سيؤدى إلى فعل ما يبغضه الله من الحرص علي المال والرئاسة والظلم والكذب، وغير ذلك من المعاصى التى قد تقع ويكون الدافع الرئيسى هو الحرص على عدم فوات الغنيمة.
إن الذي حدث في أُحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه و سلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره؛ كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان؛ وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات مغلفة بهوى النفس وتلفِتُها إلى الدنيا ومتاعها .
وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في مواطن كثيرة؛ لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة أفرادا ومجتمعات، كما ظهر ذلك في معركة أحد. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ...)(رواه مسلم).