الكيمياء السياسية... استثمار الطاقة

  • 165

تحدثنا في المقالين السابقين على مثال ثورة 25 يناير، ووضعنا مقاربة تصلح لفهم ليس فقط ثورتنا، وإنما باقي ثورات ما يطلق عليه "الربيع العربي"، واستكمالا لتوضيح هذه المقاربة نعرض لتحليل كتبه "كرين برينتن" في ثلاثينيات القرن الماضي تحت عنوان "the anatomy of revolution"    (تشريح الثورة) وهو كتاب يعتبر في الغرب العمدة في فهم ظاهرة الثورة، بالقطع الكتاب لا يرقى لأن يعتبر قاعدة لبيان مثال أي ثورة في العالم، ببساطة هذا مطلب لا يدرك، لأن الثورات  وإن تشابهت في مقدمة الاسم (ثورة) فهي تختلف في نهاية الاسم مصرية، أو ليبية، أو يمنية، أو سورية، أو أوكرانية، أو فرنسية .... ألخ، ولكل مكان وزمان خصوصية.

لذلك استخدمنا لفظ مقاربة وليس قاعدة، الكتاب يدرس أربع ثورات كبرى ذات أثر، وهي: الأمريكية 1775، والفرنسية 1789، والروسية 1917 مع الحرب الأهلية الإنجليزية 1640، وهي الثورات التي شكلت واقع الغرب الحالي، وما زال الكاتب يطبع كتابه حتى كان آخر توسيع له 1964 م والذي ظل يستخدم كمادة لفهم الثورات في دوائر السياسية العالمية ( يُذكر أن برجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي استعان به ليشرح للرئيس الأمريكي جيمي كارتر ثورة الخوميني 1979).

يقسم كرين برينتن الثورة إلى ثلاث مراحل:
(1) الحقبة الممهدةللثورة، والتي فيها تعظم الأزمة ( أزمة اقتصادية، وأزمة إدارة حكومية،وشيوع حالة تذمر، وعجز الطبقة الحاكمة على استيعاب عموم الشعب .. ألخ) وهكذا تبدأ الثورة، ويحدث ما يراه عموم الناس غير قابل للتحقيق وهو "انتفاضة شعبية" تعجز القوة على قمعها فتخرج الأمور عن سطوة الطبقة الحاكمة، ويحدث أثناء ذلك تناغم كل القوى الثورية وعموم الشعب إنها مرحلة (شهر العسل) الذي لا يقف أمامه الانهيار الحكومي وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
 

(2) مرحلة بزوغ الأزمات بعد الثورة، ومهما كان الحلم جميل فلابد من الاستيقاظ لنواجه حقائق الحياة، فإن الثورة قد أتت لإصلاح واقع مرفوض، وهدم النظام، من وجهة نظر مشعلي الثورة، لا يعني البتة بناء الحلم ومحاولة ( حمائم الثورة بناء تحالف مع حمائم النظام السابق) وإقامة نظام يناسب المرحلة، ومثل هذه المحاولة (التي ينطلق منها مشعلو الثورة) تفشل في محاولة حل الأزمات أي إعادة الأمن إلى الشارع؛ لأن جميع أساليب القمع تكون ممقوتة من الجميع، مما يعني استمرار الفوضى، وهذا يعني صراع بين كل الأجنحة التي شاركت أو أيدت الثورة، وهذا يعني أيضا الإطاحة بالحكومة العاجزة بعدما تم التخلص من الحكومة البائدة، وهكذا نصل إلى المرحلة قبل الأخيرة، وهي صراع الأزمة؛ حيث يحل الصقور مكان الحمائم ( المعتدلون) ويسيطرون على الشارع باستخدام العنف (القوة)، وتبدأ عملية الإقصاءات أو الإعدامات أو المحاكمات أي التخلص من كل من ينازعهم السلطة، خصوصا ممن تولى شيئا بعد الثورة، وقد تكون هذه المرحلة مرحلة الرجل القوي، وهنا تبرز الحرب الأهلية أو حتى الخارجية، و قد تكون أخطر من ذلك.
 
 وتبدأ الثورة في فقدان زخمها شعبيا وتتفاقم الأزمة الاقتصادية والتي تبرز كتهديد جدي، وتبرز أيضاإشكالية الدستور.
وهذا يسلمنا للمرحلة الأخيرة، وهي: (3) مرحلة النقاهة أو الخلاص، والتي قد تكون في أحداثها خور الثورة والمزيد من القمع حتى نصل لمستوى الإعدامات (إعدام روبسبير في فرنسا مثلا)، أو استيلاء حاكم مركزي مستبد على الحكم (كرومويل في إنجلترا 1648،  نابليون في فرنسا 1882، ستالين في روسيا 1921 ) وعودة بعض الاستقرار، فيحاول الناس نسيان الثورة لدرجة تغيير أسلوب الحياة نفسها، مما يؤدي إلى نهاية الثورة وعودة منهج الحكم السابق؛ مثل ما حدث في فرنسا بعد هزيمة نابليون في "واترلو".

يقول مترجم الكتاب سمير الجلبي: تنتهي الثورات غالبا بالعودة من حيث بدأت، بعد أن تنشأ أفكار جديدة مع بعض الإصلاحات تمحو أسوأ ما في النظام القديم، ثم تمسك الطبقة الحاكمة بزمام القوة من جديد، لتدور دائرة.

ما سبق هو ملخص لملخصات، ومن أراد التوسع فالكتاب وملخصاته متوافرة على الشبكة العنكبوتية، لكن الذي يهمنا الآن هو بيان أن ما سبق ليس حتمية تاريخية، كما أنه ككل عمل بشري ليس معصوما من النقد، ومما انتقد عليه أنه لم يشر إلى مفهوم ومحاولات الثورة المضادة وأثرها(لنا مقال سابق عن عملية أجاكسي في إيران) وهناك الكثير من الانتقادات لا مجال لمناقشتها هنا، فالغرض ليس تقييم أعمال الكاتب أو الكتاب، وإنما الغرض هو بيان مثال  لعلملية تطور الثورات؛ حيث يؤدي وضع ما إلى تذمر متنامي، فينشأ وضع جديد مع نخبة حاكمة جديدة ورؤية شعبية جديدة، فيحدث تفاعل ثان فثالث... إلخ

حتى تستقر الأمور ( حتى حين)... إنها الكيمياء السياسية.
إذن من يريد الإصلاح عليه أن يكبح جماح غرائزه البدائية، ويتصرف بحكمة مَن يدرك أن الأرض من تحت قدمه غير ثابتة، وتوشك أن تتغير هي والمناخ من حوله، بل والناس من أمامه ومن خلفه.

 

إن الثورات هي انطلاق عظيم لطاقات يمكن أن تكون مركبة لإصلاح مكافئ أو مدمرة إن لم توجه أو تضيع هباءا، فالبترول في الأرض منذ آلاف السنين تحت أقدام البشر، والمساقط المائية يُنظر إليها على أنها فقط مصادر لمياه الشرب والزراعة، والشمس فوقنا للضوء والدفئ، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي جعله الله قادرا لأن يحول كل ذلك إلى طاقات يفعل بها ما يشاء من خير أو شر.
خير الكلام: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251].