عاجل

العذر بالجهل "3"

  • 214

الكفر نوعان: أكبر وأصغر

قال ابن القيم رحمه الله: "الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان"، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيها أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وعدم تخليدهم فيها مبنية على الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة.


قال تعالى :" وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ " (يوسف: 106)؛ فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك.
 وقال تعالى :" قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " (الحجرات: 14). 


فأثبت لهم إسلاما وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه :" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " (الحجرات: 15).
هؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفار.


قال القاسمي في "تفسيره":"حيثما وقع في حديث (مَن فَعَل كذا فقد أشرك أو فقد كفر)"، لا يراد به الكفر المخرج من الملة، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة والعياذ بالله تعالى، وقد قال البخاري :"باب كفران العشير وكفر دون كفر".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "وهذا بالتفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام وبالكفر ولوازمهما"، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا إلى فريقين: فريق أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابهم بالخلود في النار، وفريق جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل".


فهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم.
قال أبوبكر بن العربي: "مراد المصنف – أي البخاري – بقوله : باب كفران العشير وكفر دون كفر، أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة"، وقال : "وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (رواه الترمذي، وقال الألباني: حديث حسن صحيح)، فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله؛ فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج من الملة".


ومن الأدلة كذلك على أن الشارع يطلق الكفر على ما عظم من الذنوب للتنفير منه والزجر عنها، لكنه لا يقصد به الكفر المخرج من الملة بقوله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (صحيح رواه البخاري في "الأدب المفرد").


وقوله صلى الله عليه وسلم :"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" (أخرجه النسائي وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة")، وما استدل الصحابة، رضوان الله عليهم بمثل هذه النصوص على تكفير بعضهم بعضا لما حدثت الفتنة والقتال، وقوله صلى الله عليه وسلم:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وصححه الألباني)، والراجح من قولي العلماء والذي عليه جمهورهم أن تارك الصلاة كسلا لا يكفر، وقوله صلى الله عليه وسلم :"من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن)، ومعلوم أن المراد به الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة كيسير الرياء، والله أعلم.