عاجل

حَرٌّ وغفلة

  • 176

جاء شهر رمضان ذو البركات والخيرات في وقت غفلة وحر شديد؛ ليعظم أجر العاملين فيه، فإن الأجر على قدر النصب، كما أن القربات في أوقات الغفلات تتضاعف حسناتها.
 
أما الغفلة فهي الفتن والاضطرابات، التي تمر بها البلاد، والتي يغلب على الناس إلا من رحم الله الانشغال بالقيل والقال، والإغراق في تتبع الحوارات، والأخبار التي لا تخلو من الكذب والبهتان في الغالب الأعم،وكذا تتبع مباريات الكرة، وتضييع الليلفي الجلوس على المقاهي، وبين الأصحاب، فيضيع الزمان الفاضل الذي لا زمان يشبهه، في الذي ضرره أكبر من نفعه، إن لم يكن ضرره محضًا.

نعم، جاءنا رمضان،والحمد لله الذي بلغنا إياه في وقت غفلة من كثير من الناس،

وإذا كان الحال كذلك، فالله تعالى يحب من عباده أن يتقربوا إليه بالطاعات، والقربات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-"الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"[أخرجه مسلم: 2948]،قال النووي في شرح مسلم:
المراد بالهرج هنا؛ الفتنة، واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه؛ أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولايتفرغ لها إلاأفراد" [شرح النووي على مسلم: 18/ 88].
وكان النبي –صلى الله عليه وسلم – يصوم في شعبان صوماً لا يصومه في غيره من الشهور، فسأله أسامة عن سر ذلك فقال: -"«ذَلِكَ شَهْرٌ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ "[أخرجه أبو القاسم البغوي في مسند أسامة: صـ 127]،فسر اجتهاده-صلي الله عليه وسلم-هو: غفلة الناس عن فضل الشهر!!.
وقال –صلى الله عليه وسلم-" أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"[أخرجه مسلم: 1163]؛لأنه وقت نزول رب العزة والجلال، نزولًا يليق بكماله وجلاله،ويغفل عنه كثير من الناس أيضًا، حتى أنّ طاووساً –رحمه الله-تعجب من رجل يقول له وقت السحر: -ألا تنام؟
فقال: ما ظننت أن أحداً ينام وقت السحر !!!.
وذلك لعظم الجزاء وشرف الوقت!

" عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ، مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَيِّهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا: أَيَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ، وَمِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي"[أخرجه أحمد: 3949، وقال شعيب الأرناؤوط، إسناده قوي، وقال الألباني: حسن].

ولقد تشبه السلف الصالحون بالنبي –صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فكانوا يغتنمون أوقات غفلات الناس في التقرب إلى الله –تعالى-قربات!!.

فقد كان طائفة منهم يستحبون الصلاة بين المغرب والعشاء ويقولون: -ساعة غفلة !!. [لطائف المعارف لابن رجب: صـ 131].

وعَنْ مُوسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ نِصْفَ النَّهَارِ يُكَبِّرُ وَيُسَبِّحُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا بَكْرٍ السَّاعَةُ؟ قَالَ: "إِنَّهَا سَاعَةُ غَفْلَةٍ"[أخرجه أحمد في الزهد:صـ 249].

قَالَ أَبو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّكَ مُجَالِسٌ قَوْمًا لَا مَحَالَةَ يَخُوضُونَ فِي الْحَدِيثِ، فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ غَفَلُوا فَارْغَبْ إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ رَغَبَاتٍ، قَالَ الْوَلِيدُ: فَذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ حَدَّثَنِي أَبُو طَلْحَةَ حَكِيمُ بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: آيَةُ الدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ غَفَلُوا، فَارْغَبْ إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ رَغَبَاتٍ " "[أخرجه أحمد في الزهد:صـ 151]، فحذار أخي الحبيب أن يشغلك عن نفحات رمضان أحد او أي شيء !!!.

وحذار من أسباب الغفلة أو مباح الملاهي فضلاً عن المعاصي.

سئل ابن الجوزي –رحمه الله – عن الترخص في مباح الملاهي، قال:" عند نفسك من الغفلة ما يكفيها".

وحذار من الركون للكسل وترك الجد والاجتهاد في زمان الاجتهاد، الذي كل نفَس منه في طاعة الله –تعالى –خير من الدنيا وما فيها،قال –صلى الله عليه وسلم – " مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ "[أخرجه الترمذي: 3464، وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح]، وهو ذكر طيب يقال في نفَس واحد! فتدبر؛ لتَعلم أن نفَسك أغلى من الدنيا وما فيها إن اغتنمته في طاعة الله.

قال عمر -رضي الله عنه-: "الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ "[أورده الماوردي في أدب الدنيا والدين: صـ 100]،وقيل لعمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: ألا تتفرغ لنا؟ قال: "أينالفراغ؟ذهب الفراغ؛ إن الفراغ تحت شجرة طوبى في الجنة "[جزء الغضائري: صـ 169]، وقال ابن القيم –رحمه الله-"مَنْطَلَب الرَّاحَة ترك الرَّاحَة "[مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: 1/ 109]؛ أي من طلب الراحة الأبدية في الجنة فعليه أن يترك الراحة والدعة والكسل في الدنيا للجد والاجتهاد في طاعة الله –تعالى-.
وقال الفضيل –رحمه الله-"من غفل عن نفسه قتلها".
إي والله قتلها وخـــــــــــسرها !!.
 
أخي....
إن رمضان سوق رابحة قامت،ربح فيها من ربح، وخسر فيها من خسر،فحذار أن يخرج رمضان وأنت مغبون، أو خاسر نفحاته من مغفرة الذنوب والعتق من النيران!
وأما شدة الحر في الصوم فيعظم فيه الأجر؛لأن الأجر على قدر النصب.
كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-" إِنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ قَدْرَ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ " [أخرجه مسلم: 1211، والدارقطني في سننه واللفظ له: 3/ 350].
ورمضان شهر الصبر كما قال النبي –صلى الله عليه سلم-" صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ "[أخرجه أحمد في مسنده: 23070، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3804]،أي غله وحسده وغشه،والله تعالى يقول {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، ولعظم أجر الصوم في اليوم الشديد الحر كان من السلف من يتوخّى صيامه، كعائشة –رضي الله عنها-وتقول: أبادر الموت !!.
وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: غَزَا النَّاسُ بَرًّا، وَبَحْرًا، فَكُنْتُ فِيمَنْ غَزَا الْبَحْرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ فِي الْبَحْرِ سَمِعْنَا صَوْتًا يَقُولُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ قِفُوا أُخْبِرْكُمْ، فَنَظَرْنَا يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَمْ نَرَ شَيْئًا إِلَّا لُجَّةَ الْبَحْرِ، ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ حَتَّى نَادَى سَبْعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ كَذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَلَمَّا كَانَتِ السَّابِعَةُ قُمْتُ، فَقُلْتُ: مَا تُخْبِرُنَا؟ قَالَ: «أُخْبِرُكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، أَنَّ مَنْ أَعْطَشَ نَفْسَهُ لِلَّهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ يَرْوِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَكَانَ أَبُو مُوسَى: «لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ يَوْمٌ حَارٌّ إِلَّا صَامَهُ، فَجَعَلَ يَتَلَوَّى فِيهِ مِنَ الْعَطَشِ»[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 2/273، وفي عبد الرزاق مصنفه واللفظ له: 4/ 308].
وأبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-كذلك لأجل قوله –صلى الله عليه وسلم-" مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"[أخرجه البخاري:2840]،وابن عمر وصّى بنيه بصوم اليوم الشديد الحر، ولما خرج ابن عمر في سفر مع بعض أصحابه قربوا له سفرته؛ فمر به راع فدعاه أن يأكل معهم. فقال: إني صائم.

وَقَالَ نَافِعٌ: خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ فَوَضَعُوا سُفْرَةً لَهُمْ فَمَرَّ بِهِمْ رَاعٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَلُمَّ يَا رَاعِي فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الشَّدِيدِ حَرُّهُ وَأَنْتَ بَيْنَ هَذِهِ الشِّعَابِ فِي آثَارِ هَذِهِ الْغَنَمِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْجِبَالِ تَرْعَى هَذِهِ الْغَنَمَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟! فَقَالَ الرَّاعِي: أُبَادِرُ أَيَّامِيَ الْخَالِيَةَ. فَعَجِبَ ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ نَجْتَرِزُهَا نُطْعِمُكَ مِنْ لَحْمِهَا مَا تُفْطِرُ عَلَيْهِ وَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي إِنَّهَا لِمَوْلايَ. قَالَ: فَمَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ لَكَ مَوْلاكَ إِنْ قُلْتَ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ؟ فَمَضَى الرَّاعِي وَهُوَ رَافِعٌ إِصْبَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟  قَالَ: فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللَّهُ! فَمَا عَدَا أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ إِلَى سَيِّدِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الرَّاعِيَ وَالْغَنَمَ فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ. [أورده ابن الجوزي في التبصرة: 2/ 250].

وكان أبو الدرداء –رضي الله عنه-يقول:"صُومُوا يَوْمًا شَدِيدًا حَرُّهُ لِطُولِ النُّشُورِ، صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي سَوَّادِ اللَّيْلِ لِوَحْشَةِ الْقُبُور"[أخرجه أبو نعيم في الحلية: 1/ 165].
بل ووصل الحال ببعضهم من حبه لعبادة الصوم في شدة الحر أن بكوا عند موتهم؛ تأسفا على فواتها كما ورد عن معاذ، وابن مسعود -رضي الله عنهما-!!فطوبى لهم،وجعلنا الله منهم.
ولاشك أن الجزاءمن الله فوق عملهم؛ فمن ترك شيئا لله لم يجد فقده؛ وكما صاموا لله في اليوم الشديد الحر يقيهم الله فضلا منه-حر يوم النشور، يوم تدنو الشمس فوق الرؤوس مقدار ميل!!.
وأعد لهم باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون،ولهم في الجنة نزل من غفور رحيم،{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
فالله المستعان،وعليه التكلان،وهو حسبنا ونعم الوكيل، نسأله جل في علاه أن يبارك لنا في رمضان،وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى، آمين.