الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وبعد؛
أثار وجود اسم الشيخ سعيد عبد
العظيم بين الموقعين على نداء الكنانة الكثير مِن اللغط، وأيًّا ما كان مِن ملابسات
ذلك التوقيع يبقى أن كلام الشيخ المثبت في خطبه ودروسه وكتبه، وهو بحمد الله موافق
لقول مشايخ الدعوة السلفية، وموافق لقول علماء المنهج السلفي ودعاته، وعلى الأخص
كتاب «تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد» والذي كتبه في فترة تصاعد عنف الجماعة الإسلامية
في أوائل التسعينيات، وكتب في مقدمة الطبعة الثانية منه ثناءً على مبادرة وقف
العنف للجماعة الإسلامية، ونقل عن البعض أنها تأخرت نحوًا مِن عشرين سنة.
ونحن نتعرض في هذا المقال لأهم ما
ورد في هذا الكتاب؛ لتذكير الجميع بما في ذلك الشيخ نفسه بمنهجه الذي قضى عمره
الدعوي في نشره، وإليك هذه النقول المنتقاة مِن الكتاب:
يقول الشيخ سعيد عبد
العظيم: «هل كل مَن استحق العزل لابد أن يُعزل؟»
ليس كل مَن استحق العزل يعزل،
وإنما يُنظر إلى ما سيترتب على هذا العزل؛ فإن ترتب عليه فتنة أكبر لم يجز العزل
والخروج عليه، كما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم منه، أمَّا إذا أُمِنَت الفتنة
وقدر على عزله بوسيلة لا تؤدي إلى فتنة فلا بأس حينئذٍ، ومسألة عزل الحاكم داخلة
ضمن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يدخل فيها أيضًا النصيحة والدعوة
والجهاد وإقامة المجتمع المسلم، وبالتالي فلابد مِن مراعاة فقه الإنكار، وهذا
يستلزم أن ننظر بعين الاعتبار إلى أمور ثلاثة:
1- التحقق مِن أن الحاكم قد أتى
ما يستوجب العزل.
2- هل عندنا الاستطاعة على عزله
أم لا؟ وذلك لأن هذا الواجب يسقط بالعذر والعجز وعدم الاستطاعة حتى إن تحققنا أنـه
يستوجـب العزل "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 268)،
وفي الحديث: «مَن رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطِع فبلسانه، فإن لم
يستطِع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». رواه مسلم، فرتَّب النبي صلى الله عليه وسلم
الإنكار على الاستطاعة.
3- هل المصلحة محققة بعزله أم لا؟،
حتى إن استوجب الإمام العزل وكانت عندنا الاستطاعة على عزله، وذلك لأن شرع الله
مصلحة كله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شُرِع لجلب مصلحة ولدفع مفسدة، فلا
يجوز أن نزيل كافرًا ونأتي بمن هو أكفر منه، أو نجعل الكفار يتمكنون مِن البلاد
والعباد بخروجنا على الحاكم، والأمر كما ترى يتطلب معرفة شرعية وبصيرة بالواقع
وقدرة على وزن المصالــح والمفاسـد دون حيــف أو ميـل "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل: 43).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان تحت
عنوان «عزل الخليفة»: «الأمة هي التي تختار الخليفة، فلها حق عزله؛ لأن مَن يملك
حق التعيين يملك حق العزل، ولكن استعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي وإلا
كان تعسفًا في استعمال الحق، واتباعًا للهوى، وهذان لا يجوزان في شرع الإسلام،
والمبرر الشرعي لعزل الخليفة، خروجه عن مقتضى وكالته عن الأمة خروجًا يبرر عزله،
أو عجزه عن القيام بمهام الخلافة وهذا ما صرح به الفقهاء، فالإمام ابن حزم يقول
-وهو يتكلم عن الإمام- ما نصه: «... فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله
تعالى وسُّنَّة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإن زاغ عن شيء منهما مُنع مِن ذلك
وأُقيمَ عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خُلِعَ وولي غيره». ومن
أقوال الفقهاء أيضًا: «وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، مثل: أن يبدر منه ما
يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته
لانتظامها وإعلائها». ومِن أمثلة العجز عن مهام الخلافة الموجب لزوالها عنه أو عزله
واختيار غيره لمنصب الخلافة: «جنونه المطبق، وعماه وأسره بيد العدو على وجه لا
يرجى خلاصه لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، فيختارون غيره ليقوم بمصالح المسلمين».
وتحت عنوان تنفيذ العزل يقول: «وإذا كانت الأمة تملك حق عزل الخليفة عند
وجود السبب الشرعي الداعي لذلك، إلا أنه يجب أن يعرف جيدًا بأن مجرد وجود السبب
الشرعي للعزل، لا يعني بالضرورة لزوم تنفيذ العزل؛ لأنه عند التنفيذ يجب أن ينظر
في إمكانه ونتائجه، فإذا كان تنفيذه ممكنًا ورؤي أنه لا تترتب على العزل نتائج
مضرة بالأمة تربو على عدم عزله، وجب العزل في هذه الحالة، وإذا رؤي أن التنفيذ غير
ممكن أو ممكن بذاته ولكن تترتب عليه نتائج مضرة بالأمة تزيد على أضرار بقائه وعدم
عزله، وجب أو ترجح عدم التنفيذ؛ لأن مِن قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن
لا يكون العمل على إزالة المنكر مستلزمًا أو مقتضيًا وقوع منكر أعظم منه، وعزل
الخليفة مِن النهي عن المنكر؛ فيخضع لهذه القاعدة». اهـ.
ويلاحظ أن الكلام في هذه الفقرة
بالذات لم يكن مِن إنشاء الشيخ، وإنما نقله عن أهل العلم المتقدمين؛ كابن حزم وغيره
كما في العبارات التي تحتها خط.
وفي ثنايا تقريره لقاعدة مراعاة المصالح والمفاسد في قضية إنكار المنكر ودفع المظالم، نقل الشيخ عن المودودي نهيه عن السرية وعن العنف وعن الاستعجال كما نقل عن غيره، ولكننا نكتفي بنقل المودودي لوضوحه ولكونه من واحد من نسب إليهم المسئولية عن بذور التكفير فكيف بغيره؟
يقول الشيخ سعيد عبد
العظيم: ويقول المودودي في كتاب واجب الشباب
اليوم - محنة الجماعة الإسلامية: «أيها الإخوة الكرام؛ وأحب في ختام كلمتي هذه أن
أوجه إليكم نصيحة، هي أن لا تقوموا أبدًا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف، ولا
تلجئوا إلى استعمال العنف والقوة والسلاح لتغيير الأوضاع؛ لأن هذه أيضًا مِن
الاستعجال ومحاولة الوصول إلى الهدف بأقصر طريق، وهذا الأمر أسوأ عاقبة وأكثر ضررًا
مِن كل صورة أخرى، إن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل في الماضي وسيحصل في المستقبل
بجمعيات علنية، يكون نشاطها واضحًا وضوح الشمس في رابعة النهار لكل إنسان، فعليكم
أن تنشروا دعوتكم بطريق علني وتقوموا بإصلاح قلوب الناس وعقولهم في أوسع نطاق،
وتسخروا الناس لغاياتكم بأسلحة من الخُلق الكريم والفضيلة، وأن تواجهوا كل ما يُقابلكم
مِن المحن والشدائد مواجهة الأبطال، فهذا هو الطريق الذي سيمكننا مِن عمل انقلاب
عميق الجذور راسخ الأسس قوي الدعائم كبير النفع في حق هذه الأمة المسكينة، ولا
يمكن لأية قوة معادية أن تقف في وجهه. وأقول: إن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما
صلح به أولها، أما إذا استعجلتم وقمتم بانقلاب بوسائل العنف ونجحتم إلى حد ما،
فسيكون مثله كمثل الهواء الذي يدخل مِن الباب ليخرج مِن الشباك، هذه هي النصائح
التي أوجهها لكل مَن يقوم بأمر الدعوة». اهـ.
والمودودي يتحدث هنا عن محنة
الجماعة الإسلامية في باكستان، ومع هذا لم تعِ الجماعة الإسلامية في مصر الدرس إلا
بعد عشرين سنة، وها هو نداء الكنانة يريد أن يكرر مآسي الأربعينيات والخمسينيات
عند الإخوان ومآسي التسعينيات عند الجماعة الإسلامية.
وحيث إن الاغتيالات السياسية المستندة إلى فتاوَى بكفر الشخص المستهدف أو على الأقل تلبسه بما يوجب قتله كانت هي السمة الغالبة لعنف التسعينيات، فقد وجه لها النقد وإن كان لم يغفل نقد دعوى التفجير المستندة إلى شبهة يبعثون على نياتهم، ولكنه أفرد الحديث على الاغتيالات السياسية فاستنكر اغتيال حتى مَن ثبتت عليه الردة، وبلا شك إن اغتيال غيره مِن باب أولى، فقال طارحا لأسئلة لا بد منها في هذه القضية:
ثم بدأ بأسوأ مَن يستهدفهم، وهم مَن يظنون بهم الردة قائلًا: لا يقتل المرتد حتى يستتاب ثلاثًا
وساق نقلًا عن ابن قدامة في المغني في أحكام المرتد ومنه قوله: «أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر وعلي وعطاء والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وهو أحد قولي الشافعي: إلى أن قال: ولنا حديث عمر، ولأن الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال، فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها وأنها مدة قريبة، وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لقول عمر: هلَّا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا؟ ويكرر دعايته لعله يتعطف قلبه فيراجع»، ثم قال: فهل ترى الردة تبرر الاغتيال على هذا النحو؟ وقد ذكرت الفرق بين النوع والمعين وكيفية إقامة الحجة تحت عنوان: «تكفير المسلمين لتبرير قتلهم وقتالهم» فراجعه.
يقول ابن تيمية: «فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت مِن المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر مِن مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تحتاج النصوص مَن يكون خبيرًا بها، وبدلالتها على الأحكام، وعلى هذا: إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعًا أو يتركوهما جميعًا لم يجز أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه مِن المنكر، ولم يُنهَ عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذٍ مِن باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه مِن المعروف.
ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا منكرًا وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان، لم يؤمر بهما ولم ينهَ عنهما؛ فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، أما مِن جهة النوع؛ فيؤمر بالمعروف مطلقًا، ويُنهي عن المنكر مطلقًا. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يُؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بالمعروف فوات معروف أكبر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن، حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه مِن الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومِن هذا الباب: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم مِن أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكبر مِن ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به، واعتذر عنه، وقال سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له سعد بن عبادة، مع حسن إيمانه وصدقه، وتعصبت لكل منهم قبيلة حتى كادت تكون فتنة». اهـ.
ثم ختم نقوله عن ابن تيمية وغيره في تلك المسألة الهامة بقوله: «وما أكثر الفتن التي تنجم من حوادث الاغتيال وعدم التعرُّف على ضوابط الإنكار».
بدأنا بأن الشيخ أصدر هذا الكتاب
نصيحة للجماعة الإسلامية ومن نحى نحوها في التسعينات، وأنه أثنى في مقدمة الطبعة
الثانية على مبادرة الجماعة الإسلامية، فكيف نظرت الجماعة الإسلامية إلى هذا
البيان؟ تأتيك الإجابة على لسان الشيخ أسامة حافظ -القائم بأعمال رئيس مجلس شورى
الجماعة الإسلامية- حيث نشر تصريحات حول هذا البيان قائلًا: «مثل هذه البيانات
التي تلقى هكذا بين الشباب المتحمس المندفع أمر خطير؛ إذ يستمدون منها مشروعية
القتل، ولا يجدون فيها الشروط اللازمة، والموانع المانعة، فلا تحقيق ولا تدقيق ولا
قياس للمصالح ولا المفاسد المترتبة على ذلك، خاصة وأن أكثرهم لا يعيش التجربة،
وإنما يعيش مع كلام الكتب».
وقال أيضًا: «هذا بسبب الصيحات
المتصاعدة هذه الأيام التي تشجع على قتل الشرطة والجيش بدعوى القصاص، متجاهلًا أن
القتل جريمة شخصية لا يأخذ بها إلا صاحبها».
ووضح تجربة الجماعة الإسلامية في
ذلك قائلًا: «نحن -ومِن واقع تجربة سابقة- نقول: إن مَن تغوص رجله في لجة القتل
والسلاح يصعب عليه بمرور الوقت ضبط أعماله، وقد عرفت في الأحداث السابقة مَن قتل
سائقًا رفض أن يحمل له جريحًا خوفًا مِن مسئولية ذلك، وعرفت مَن قتل أربعة مِن
الفلاحين؛ لأنهم شاهدوهم وخافوا أن يدلوا عليهم، ومَن قتل رجلًا ظهر أمامه فجأة
فسبق إلى ضربه ظنًّا منه أنه كان مختبئًا منه، ومثل ذلك مِن أعمال تلحظ فيها
استسهال القتل وإطلاق النار بمرور الوقت واعتياد ذلك، وسيأتي يوم القيامة مدينًا
للقتيل المظلوم».
ونحن بدورنا نتساءل: إلى متى يصر
البعض على تكرار ذات الخطأ، ليس مرة واحدة، بل عدة مرات ؟ !
نسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى ما اختلفوا فيه مِن الحق بإذنه.