فقه المصالح والمفاسد

  • 151

هذا الباب مِن أبواب الفقه الإسلامي له مكانة عظيمة في ديننا، وقد اهتم به العلماء اهتمامًا بالغًا
 
مِن حيث التأليف والتنظير، وألفت فيه المجلدات ومنها (القواعد الكبرى) للعز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، والذي قال في مقدمة كتابه: «وقد أمر الله بإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة، وأخرج بعضها عن الزجر إما لمشقة اجتنابها وإما لمصلحة تعارضها, ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر والنفع والضر والحسنات والسيئات؛ لأن ألم المصالح كلها خيور نافعات حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح والسيئات في المفاسد». اهـ.
 
وحديثي هنا ليس عن فقه المفاسد والمصالح مِن باب الشرح والتعليق والتوضيح، ولكنه سيكون مِن زاوية واحدة ظهرت جلية مِن خلال الأحداث التي تمر بالأمة الإسلامية وخصوصًا بمصرنا الحبيبة، وهي زاوية تطبيق هذا الباب العظيم مِن أبواب الفقه في الواقع العملي؛ فقد أشبعه العلماء تنظيرًا، ونحتاج إليه تطبيقًا، وأزعم أن هذا لم تفعله دعوة مِن الدعوات في العصر الحديث كما فعلته الدعوة السلفية والتي كِيلت لها الاتهامات بالتكفير والتخوين والتفسيق والعمالة مِن القريب والبعيد، وهذا ليس بغريب -على الأقل لي–؛ لأن هؤلاء تربوا على دراسة هذا الباب دراسة نظرية فقط ولم يتخيلوا يومًا أنه سيكون واقعًا عمليًّا، فكانت الصدمة المروعة لهم عندما قدمت الدعوة السلفية على هذه الخطوة المنضبطة بتلك القواعد الشرعية, وبهذا أزعم أنها قدمت خدمة جليلة لكل أطياف التيار الإسلامي المنصف بتبنيها هذه الخطوة الجريئة والمنبثقة مِن الكتاب والسُّنَّة، والأدلة على ذلك كثيرة ووفيرة نذكر منها على سبيل المثال قصة الخضر مع موسى عليه السلام وكيف أنه أعطب سفينة الفقراء حتى لا يأخذها الملك الظالم، وكيف قتل الغلام حتى لا يؤدي بأبويه للكفر، وكيف أنه بني جدار في القرية التي رفضت إطعامه.
 
كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالًا حيًّا في تطبيق فقه المصالح والمفاسد؛ فكان يمر على أصحابه وهم يعذبون فكان يقول لهم تارة: صبرًا فإن موعدكم الجنة، وتارة أخرى: لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر ولكنكم تستعجلون، هذا لما كان مستضعفًا، وكذلك لما قويت شوكة الإسلام في المدينة وتعرض للطعن في عِرْضِه مِن ابن سلول المنافق، فقال له عمر: دعني أضرب عنقه، فقال: «لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه» أليس هذا تطبيقًا عمليًّا لفقه المصالح والمفاسد مِن النبي صلى الله عليه وسلم وقت الاستضعاف وكذلك وقت التمكين؟ ومثال آخر لما أطلق صلى الله عليه وسلم على انسحاب الجيش مِن مؤتة بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه فتحًا؛ لأنه حافظ على جيشه بانسحابه كما أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف مِن سيوف الله حتى فتح الله عليهم، وهكذا فعل ابن عباس رضي الله عنه مع الحسين رضي الله عنه لما عزم الخروج إلى العراق لقتال يزيد بن معاوية، جاءه فقال له: يابن عمّ أني أتصبر ولا أصبر, أني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق أهل غدر فلا تقربنهم, فإن أبيت إلا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن؛ فإن بها حصونًا وشعابًا، ولأبيك بها شيعة, فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية، فقال الحسين رضي الله عنه: يابن عم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكني أزمعت على المسير، فقال له ابن عباس رضي الله عنه: فإن كنت سائرًا فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك فوالله إني أخاف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، ولم يُتهم ابن عباس حينها بالخيانة والعمالة أو يُرمَى بالكفر والفسق والنفاق.
 
قال صاحب الظلال رحمه الله: «إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة, ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التكاليف, لا عن شجاعة واحتمال وإصرار, كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار حتى إذا وُوجِهُوا بهذه التكاليف كانت أثقل عليهم مما قدروا وأشق مما تصوروا، فكانوا أول الصف جزعًا وانهيارًا, في حين يثبت أولئك الذين يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدتهم ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته. والمتهورون والمندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور, وفي المعركة يتبيَّن أي الفريقين أكثر احتمالًا, وأي الفريقين أبْعَد نظرًا كذلك». اهـ.
 
قال المعلمي رحمه الله: «قد تدبرت أنواع الفساد؛ فوجدت عامتها نشأت عن إماتة السُّنَّة أو إقامة البدعة،
 
ووجدت أكثر المسلمين يبدو منهم الحرص على اتباع السُّنَن واجتناب البدع، ولكن التبس عليهم الأمر فزعموا في كثير مِن السُّنَن أنها بدعة وفي كثير مِن البدع أنها سُنَّة، وكلما قام عالم فقال: هذه سُنَّة أو هذا بدعة، عارضه عشرات أو مئات مِن الرؤساء في الدين الذين يزعمون أنهم علماء، فردوا يده في فيه، وبالغوا في تضليله والطعن فيه، وأفتوا بوجوب قتله أو حبسه أو هجرانه، وشمروا للإضرار به وبأهله وإخوانه، وساعدهم ثلاثة مِن العلماء: عالم غال، وعالم مفتون بالدنيا، وعالم قاصر في معرفة السُّنَّة، وإن كان متبحرًا في غيرها». اهـ.
 
وختامًا لا يسعنا إلا أن نقول لدعاتنا ومشايخنا: جزاكم الله خيرًا عَنَّا وعن دعوتنا لتحملكم ردود الأفعال الغير منضبطة ممن لم يدركوا هذا الباب أو غلبتهم عاطفتهم على إعمال ما تعلموه مِن قواعد نظرية بشأنه.