مسائل في الغزو الفكري وصراع الحضارات

  • 146

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
نستعرض في هذا المقال بعض المسائل المتعلقة بالغزو الفكري ودوره في صراع الحضارات:
 
(1) خطورة الغزو الفكري:
الغزو الفكري هو أحد الأسلحة التي تستخدم في صراع الحضارات، هذا الصراع التاريخي الممتد عبر القرون والأجيال، وتنفق من أجله الملايين والمليارات، وتعقد المؤتمرات والندوات والمعسكرات، وينوع من وسائله مستخدمًا أحدث ما وصلت إليه البشرية في مجال التقنية والأفكار.

 
والغزو الفكري هو أساس صراع الحضارات وهو الذي من أجله تعقد ألوية الحروب وتتحرك الجيوش وتمتد آثاره لأجيال وأجيال.
 
الغزو الفكري يؤثر في اعتقاد الناس وسلوكهم ونظام حياتهم وعاداتهم وتصوراتهم وأخلاقهم.
 
الغزو الفكري يمسخ الفطر ويضلل العقول ويرد الإنسان عن غايته التي خلق من أجلها ليكون في أسفل سافلين في النار والعياذ بالله بعد أن خلقه الله في أحسن تقويم في أعدل هيئة وصورة.
 
(2) دور أمة الإسلام في التصدي للغزو الفكري:
ومع الانفتاح العالمي وسرعة التواصل ووسائل حفظ المعلومات، أصبح الغزو الفكري أكثر انتشارًا من ذي قبل مما يزيد من دور هذه الأمة أمة الإسلام، لا سيما أهل العلم والدعوة منها للقيام بواجبها ومهمتها التي ابتعثها الله من أجلها لكي تحمل وظيفة الأنبياء والمرسلين وتصحح الأفكار وتهدي إلى صراط الله المستقيم بما لديها من مقومات أنعم الله عليها به وتقوم الاعوجاج وتزيل الغشاوة عن الأعين والقلوب وتشرح الصدور للحق بإذن الله وتقيم الحجج وتنشر البراهين وتجادل بالتي هي أحسن وتبين السبيل وترد هذه الأنفس عن جهالتها وعمايتها إلى الفطرة التي فطرها الله عليها.
 
قال تعالي: (وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وسطًا أي عدولًا، فكانت هذه الأمة شاهدة على الأمم بتمسكها بالحق والعدل الذي حادت عنه باقي الأمم.
 
(3) استهداف الغزو الفكري للشباب والنساء:
والغزو الفكري يستهدف الشباب والنساء بالخصوص، ولذلك لابد من حماية شبابنا من هذه الانحرافات، فشباب المسلمين غرض أساسي لأصحاب الغزو الفكري حتى يوجدوا جيلًا جديدًا يحمل أفكارهم وينشرها في المجتمع بأقل تكلفة وكذلك كان عبر العصور كما في قصة أصحاب الأخدود: "كان ملكٌ فيمن كان قبلكم. وكان لهُ ساحرٌ. فلما كبرَ قال للملكِ: إني قد كبرتُ. فابعث إلى غلامًا أُعلِّمُه السحرَ".
 
وتزداد تلك الحملات التغريبية التي تنشرها منظمات المجتمع المدني في هذه الفترة مستغلة ما طرأ على الساحة من حالة الانقسام المجتمعي وتردي الأوضاع الداخلية وغياب دور أصحاب الاتجاهات الإسلامية وتشويه صورتهم بعد تجربة حكم الإخوان السابقة وما تلاها من أحداث العنف وتصدر داعش للمشهد الإقليمي كجزء ضمن مخططات هذا الغزو وهو محاولة تصدير أن صورة الإسلام هي نموذج داعش.
 
(4) الحق واحد لا يتعدد:
والحق واحد لا اختلاف فيه، وأما الباطل فطرقه كثيرة وحججه واهية، وإذا كنا قد حددنا أن التصدي لهذا الغزو هو واجب أمة الإسلام، فإن الركيزة الثانية في هذا الأمر هو هذه المسألة أن الحق واحد لا اختلاف فيه، وإنما الخلاف أمر حادث بعد مجيء البينات، لأن هذا الكون كله يدور في منظومة واحدة وهي العبودية لله رب العالمين، والأرض والسماء خاضعة لأمر الله والله سبحانه وتعالى خلق الناس على الهدي والتوحيد، وفطرهم على الحق فكانوا أمة واحدة على الهدي والحق، والملة واحدة والدين واحد؛ فلا ماركسية ولا علمانية ولا ليبرالية ولا إلحاد ولا يهودية ولا نصرانية ولا شرك ولا وأنداد ولا وثنية ولا طواغيت تعبد من دون الله ولا أحبار ولا رهبان يشرعون ما لم يأذن به الله ولا آلهة تعبد من دونه، ولا تحريف ولا تبديل ولا ابتداع ولا تأويل ولا قدرية ولا مجوسية ولا حلولية ولا اتحادية حتى أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحل الله لهم، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم: "وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمتُ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزلَ بهِ سلطانًا".
 
فالناس كانوا أمة واحدة علي الحق كما قال الله عز وجل: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ? وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة : 213].
 
عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين.
 
وقال الربيع بن أنس في قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)؛ أي: عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف.
 
وهذه مسألة عظيمة الأهمية أن الحق لا يدور بين طوائف أو مناهج مختلفة وليس له طرق متعددة، وليس الحق أمرًا مجهولًا لا يمكن الوصول إليه، بل الحق معه وعليه البينات، وإنما الخلاف الناشئ بعد مجيء البينات هو الطارئ والعارض ورد الناس إلى الأصل هو رد لهم إلى الفطرة التي فطروا عليها، وإلى الغاية التي خلقوا من أجلها، وإلى سبيل الله وصراطه المستقيم بعيدًا عن طرق الشياطين.
 
وهذا الحق واحد في الأصول والفروع في العقائد والعبادات والمعاملات؛ لأن مصدره واحد وهو الكتاب الذي أنزله لله للفصل بين الناس، وما جاءت به الرسل من العلم والحكمة، ولذلك كان التمسك به العصمة والنجاة من الافتراق والاختلاف وكانت نعمة لا يقدرها ولا يفرح بها إلا أهلها الذين اختصهم الله بها بعدله وحكمته وفضله ومنته، فكانوا أسعد الناس بذلك.
 
(5) وجود طائفة قائمة بالحق مستمسكة به :
وهذه مسألة ثالثة وهي أن الهداية إلى الحق ممكنة وليست مستحيلة، وأن الله اختص بها طائفة بعينها وهم أهل الإيمان أتباع الأنبياء والرسل، وأن الحق ليس موزعًا بين الملل أو بين الفرق والطوائف، وأن السعي إلى إيجاد هذه الطائفة هو من أعظم المطالب.
 
وهذه الطائفة هي الوحيدة التي اهتدت إلى الحق ومن سواها فعلى ضلال، وإن احتكار هذه الطائفة للحق ليس باسم أو مجرد انتماء أو نسب، وإنما هو لوصف واتباع وعمل.
 
والهداية إلى صراط الله تسع الناس جميعًا، بل إن الله عز وجل قد دعا عباده جميعًا إلى الدخول في رحمته وإلى اتباع سبيله، ولكن ليس كل الناس قد هدي فهداية البيان قد عمتهم وهداية التوفيق كانت لمن اختصه بالإيمان منهم.
 
وبذلك نكون قد أجبنا على الإشكال الذي طرحه صاحب كتاب ما بعد السلفية حينما استبعد أن تكون طائفة بعينها تحتكر الحق، وأن السلفيين لا يحتكرون الحق، والحق أن أدلة الكتاب والسنة لا تساعده؛ فقد قال سبحانه وتعالى: ( فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)، وقال عز وجل: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهرينَ علَى الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلَهُم، حتَّى يأتيَ أمرُ اللَّهِ وَهُم كذلِكَ"، وبقاء الحق واستمراره بوجود من يحمله بلا شك فهي طائفة واحدة وليست طوائف.
 
وأما السلفية فهي معنى ما ورد في الآية: (فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) أي إلى الحق الذي كان قبل الخلاف؛ فالسلفية هي رد الناس إلى ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الفرق والبدع، فلئن كان الحق موزعًا بين الطوائف كما يقول صاحب هذا الفهم (أحمد سالم) فيلزم من ذلك أن يفتقر دين الإسلام إلى ما جاءت به الفرق بعد ذلك، فلا يكون تامًّا، بل يكون ناقصًا وكفى بهذا فسادًا.
 
وإن كان يقصد أن الحق قد اجتمع في الصحابة وتفرق فيمن بعدهم، فيكون المعيار هو موافقة ما جاء به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو عين ما يدعو إليه السلفيون.
 
وإنما فصلت في الإجابة على هذه الشبهة؛ لأنها شبهة قديمة حديثة، دائمًا ما تطرح في أشكال مختلفة، وهي شبهة واحدة.
 
(6) مصدر الغزو الفكري:
والغزو الفكري تحركه الإرادات الفاسدة والقلوب المريضة وأصحاب الأهواء والأغراض وملوك الدنيا ومن يريدون استعباد الأمم والشعوب ورؤوس الضلال، فهل يسعون لنشر أفكارهم رغبة في الإصلاح وحرصًا ورعاية لمصلحة الأمم والشعوب؟ بل إنما الرغبة في السيطرة وقهر القوي للضعيف واستعباد الناس بالشهوات حتى يروج سوقهم وتكثر بضاعتهم وتربح أموالهم.
 
والرغبة في إفساد الأمم وتدميرها حتى يبنون حضاراتهم على أطلال غيرهم.
 
(7) طرق الباطل ليس لها مستند من أدلة أو براهين:
ما مستندهم؟ فهذه الطرق والسبل التي يدعون الناس إليها هل قامت لديهم أدلة وبراهين عليها؟ هل قامت لدى الملحدين الأدلة الساطعة على الصدفة والتطور وإنكار الإله؟ وهل قامت لدى العلمانيين الأدلة الواضحة على نبذ التشريعات وإنكار الأمر والنهي، وأنه لا دين يلزم الناس ولا رب يحكم؟ هل خفي على الناس خالقهم فعبدوا الأوثان والأنداد والأحبار والرهبان والطواغيت؟ هل قامت لدى صاحب كل بدعة الأدلة المقنعة على بدعته؟
 
ما أضل الإنسان حينما يعمل عقله فيما لم يحط به ولم يخلقه ولم يوجده ولم يرزقه ولم يهده ولم يحيه أو يمته، حينما يفكر ويقدر ويجعل نفسه حاكمًا على عقول البشر يريد أن يضع لهم الاعتقادات التي يعتقدونها والمناهج التي يسيرون عليها وهو قد بلغ به من قمة العجز أنه لا يستطيع دفع الضر عن نفسه إن نزل به ولا يستطيع أن يؤخر الموت عنه إن جاءه.
 
إن نظرة واحدة إلى البداية والنهاية تهدي الإنسان إلى طريقه الصحيح. إن هذا الضعف الكامن في النفس ليدعو الإنسان إلى أن يعرف حقيقته. إن حاجة الإنسان الدائمة إلى ما يسد جوعه ويروي عطشه ويداوي به مرضه تذكره بأنه مخلوق. إن عجز الإنسان أن يحيا دون أن ينام ليذكره بأنه ضعيف. إن نظر الإنسان إلى الكون من حوله ووقوفه عاجزًا أن يحيط به أو يصل إلى أقطاره ترده عن غيه وعن جهله وكبره.
 
فيا أيها المخلوق المربوب ما غرك بربك الكريم؟ أغرك أن سخر لك الكون من حولك وأعطاك عقلًا وسمعًا وبصرًا؟ فإن كنت صادقًا أفخلقته أم خلق لك أسخرته أم سخر لك؟
 
هل غرته تلك المدة التي استخلف فيها في الدنيا وابتلي بالإيمان بالغيب فظن أنه ليس وراء هذا الغيب شيء.
 
هل تستطيع أية حضارة من هذه الحضارات المزعومة أن تقدم لنا شيئًا من الهدي والعلم عن هذه الحقائق إنها لا تعرف عن عالم الغيب إلا الخرافات وسفاهات وضلالات العقول.
 
(8) أشد الظلم معارضة الحق الواضح الذي عليه البينات بالباطل الذي مستنده الظنون والأهواء،
وأقبح مما سبق أن يعارض الإنسان بالباطل الذي لديه الحق الذي يصله، أن يعارض البينات بالظنون والأوهام وتقليد الآباء، فلو أعطى لعقله الفرصة لينظر ويتدبر ويقارن ويفهم ويعرف، لكان خيرًا له، لكنه ظلم نفسه وأعطى جوارح وآلات ليستعملها فيما ينفعه فاستعملها فيما يضره.
 
ميز عن الأنعام بالعقل ليهتدي ليفكر في قدرة الله وأسمائه وصفاته ومخلوقاته وآياته، فكانت الأنعام أفضل منه؛ لأنها اهتدت إلى التوحيد بالفطرة، وهو قد ضل عنه مع عقله.
 
(9) دعوة إلى مقارعة الحجة بالحجة:
ولأن الحق واحد لأنه من لدن الحكيم العليم الخبير رب العالمين مالك يوم الدين، فإن الرد على شبهات أهل الباطل من أسهل ما يكون، بشرط أن يتعلم الإنسان هذا الحق ويعرفه، وأن يستمسك به، وأن يتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، والله سبحانه وتعالى قد جعل في كتابه تفصيل الرد على هذه الشبهات خصوصًا تفصيلًا بيِّنًا كافيًا ضرب فيه الأمثلة وخاطب الفطر والعقول ودحض الشبهات وقرر الحق في النفوس بأروع طريق وأحسنه وأقومه، وذكر أنواعًا من الأدلة، وحاج كل مخالف ومبطل بأنواع الحجج، فكانت لله الحجة البالغة، وذكر ما يدعو إليه سبحانه وتعالى وما يدعو إليه أهل الشرك والنفاق؛ فاتضح الحق بمعرفة حال الفريقين، وذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم وما احتجوا به عليهم وكيف أجاب الأنبياء أقوامهم ليتضح الحق من خلاله إذ احتج المعاندون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما احتج به من قبلهم وكذلك في كل زمان.
 
ولذلك ما نحتاج إليه نحن أن نعود إلى طريقة القران في مجادلة أهل الباطل وتقرير الحق في النفوس، فما غابت عنه الأدلة حتى نتركه إلى غيره وننشغل بطرق الفلاسفة والمتكلمين التي لا تقيم حقًّا ولا ترد باطلًا.
 
وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها وحي منزل، وسيرته صلى الله عليه وسلم؛ فإنها تطبيق عملي في الدعوة إلى الله وخطة متكاملة في الإصلاح والتغيير.
 
ففي القرآن والسنة فصل ما اختلف فيه الناس، وبيان للعقائد والفرق والمسائل والأحكام، ليستبين الطريق ويحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ونسأل الله أن يهدي قلوبنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يهدينا إلى الحق فيما اختلف فيه الناس، فهو مولانا وهو حسبنا ونعم الوكيل.