من فوائد الغربة

  • 204

من فوائد الغربة
 
قدر الله عز وجل أن تمر دعوة كل الأنبياء -بل كل الدعوات الإصلاحية الحقيقية- بفترة من التضييق، والغربة، والشدة، والقلة، والمطاردة، والإقصاء، والإبعاد، ومحاولات التشويه المستمرة، ومحاولة الاغتيال الحقيقي والمعنوي؛ لتنفير الناس عنها، والقضاء عليها، وإبعادها عن التأثير في المجتمع.

والله عز وجل عليم حكيم، ما قدر هذه المرحلة على دعوات الأنبياء إلا لمصالح عظيمة، وحكم بالغة، إذا شاهدها المؤمن بقلبه هان عليه ما يجد من أنواع الإقصاء والإبعاد والغربة.


من أهم هذه الحكم والمصالح
: تحصيل عدم الزهد في القلة، وعدم الاغترار بالكثرة، وعدم بناء الأمور على الكثرة، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}. وقال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقال عن نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} فلا بد أن يوطن الداعي نفسه على أن عليه العمل وليس عليه النتائج، عليه البلاغ عن الله عز وجل وعن رسول صلى الله عليه وسلم وليس عليه الهداية.


ومن حكم ذلك وفوائده؛ تحصيل الإخلاص وإرادة الله والدار الآخرة، وذلك أن من يعمل ولا يجد في الدنيا ثمرة عمله ودعوته؛ من إقبال الناس على دعوته: فإنه لا يؤمل ولا يرجو إلا رضا الله عنه وثوابه. وإذا علم الداعي أن هناك من الأنبياء من لم يجبه أحد، كما في حديث ابن عباس مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد". ومع ذلك نالوا أجرهم عند الله كاملا غير منقوص، فما عليه أن يهتدي الناس ما دام قد قام بما عليه من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ولم يكن فظا غليظ القلب يؤدي إلى انفضاض الناس من حوله، وكانت دعوته نقية بيضاء لم يشب الحقَ فيها شائبةٌ تؤدي إلى انصراف الفطر السليمة عنها فلا يعبأ بما عليه الناس.
 
ومن حكم ذلك أن يوقن أهل الإيمان وأهل الدعوة أن النصر ليس من صنعهم، فإنهم قد مر عليهم وقت يفر الناس فيه من الحق، فأين كانوا هم حينئذ؟ وما كانوا يملكون لأنفسهم ولا لدعوتهم نصرا ولا تمكينا، ولا يملكون هداية الناس، بل حتى ولا حماية أنفسهم وجوارا من الأذى، فإذا آوى الله عباده القليل المستضعفين في الأرض وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات فعند ذلك لا يقولون: انتصرنا، فعلنا، خططنا، نفذنا، بل يقولون: هذا من فضل الله علينا وعلى الناس، فيشكرون الله على نعمته، ويشهدون فضله بها، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وكما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} فلا نملك هداية الناس، ولا نملك نصرة أنفسنا، ولا نصرة الدين ولكن كفى بالله هاديا ونصيرا.


ومن حكم ذلك أن يعلم أن هذا الدين لا يقوم بالغوغاء، وأنه لا بد من إعداد طائفة مؤمنة، تربى على الحق، وتربى لقيادة الأمة بل العالم.
وحين تستكمل سمات الشخصية المسلمة في أفرادها، والتي أساسها تحقيق الإسلام والإيمان والإحسان؛ علمًا، وعملاً، وحالاً، ودعوةً، وصبرًا، وثباتًا، وحين تقوى الروابط بين أفرادها حتى يصيروا كجسد واحد؛ حبًا، وتعاونًا، وأداء لفروض الكفاية، أو تأهلاً لذلك فسوف يحصل التمكين من الله عز وجل بإذنه سبحانه.


أما أن نظن أن دعوة الإسلام يمكن أن تقيمها الجماهير الغفيرة التي لم تُرب التربية الإيمانية، وإنما تحركها عاطفة بلا علم، وحركة بلا بصيرة، وتقليد أعمى للقادة؛ فهو ظن فاسد جاهل بدعوة الأنبياء وطريقتهم.
وهذه الجماهير ما أسرع ما تنجرف وراء ناعق جديد، ينحرف بها إلى الأهواء المضلة، والشهوات المغوية؛ فينهار العمل، ويقطف الثمرة -إن كان هناك ثمرة- الأعداء والمنافقون، وأصحاب المنافع والمصالح الدنيوية.


إن الجماهير تدخل في دين الله أفواجا بعد أن يقوم الإسلام على الأعمدة الراسخة من المؤمنين. إن الزلازل والفتن تكثر في آخر الزمان، فهل يصح أن نبني بناءنا بلا أعمدة؟ إن أول زلزال سوف يهدم البناء فوق رؤوسنا، ونكون نحن المقصرين، لأننا غرتنا الجموع الكثيرة، التي لم تهيأ ولم ترب على القرب من العلماء العاملين، ولم تُخْتَبَر صفاتُها حتى ينظر في صلاحيتها لتحمل المسئولية، وإذا لم نستفد من بيان القرآن: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله فلا نلومن إلا أنفسنا ونسأل الله العافية.
 
ومن حكم هذه المرحلة
: أن يوقن أن الداعي أن نجاح الدعوة ليس لفصاحته، ولا لبلاغته، ولا حسن أسلوبه، ولا شدة حرصه، فلن يكون في شيء من ذلك أشد من النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا مماثلا له، بل ولا قريبا منه.


ومع شدة حرصه صلى الله عليه وسلم، واجتهاده وكمال عبوديته مرت الدعوة بهذه المرحلة ولم يؤمن أكثر الناس، ولم يهد النبي صلى الله عليه وسلم من أحب، فليوقن الداعي بذلك وليشهد فقرة وعجزه عن هداية الناس، فإذا اهتدى على يديه أحد فلا يقل لنفسه ولا لغيره: أنا الذي دعوت، أنا الذي علمت، أنا الذي ربيت، أنا الذي صبرت وضحيت، فهذا باب فساد خطير في قلب الداعي وقصده، وهو بداية العجب ثم الكبر والمن على الخلق، ثم التنافس على الدنيا باسم الدين والحقد والحسد، نعوذ بالله من ذلك كله.

ومرور الدعوة بمرحلة القلة والضعف والغربة يغلق هذا الباب، لأن المؤمن يتذكر هذه المرحلة، ويتذكر حاله فيها من ضعف القوة وقلة الحيلة والهوان على الناس، وأنه لم يكن بيده ساعتها أن يغير هذا الواقع، ولا يعلم متى يتغير؟ وإن كان موقنا بوعد الله، إلا أنه لا يدري أيكون موجدوا على ظهر الأرض ساعة يتغير أم يكون قد رحل عنها، فلله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، ووعد الله لمجموع الطائفة المؤمنة، ولا يلزم أن يدرك آحادها ذلك في حياتهم، بل بالقطع سيسقط الكثيرون منهم شهداء في الطريق قبل الوصول، فإذا تذكر المؤمن ذلك لم يغتر بعمله ولا بعلمه ولا بدعوته ولا بجهاده.


فكانت هذه المرحلة من أهم وأنفع المراحل للدعوة والداعي على السواء، والله المستعان.