وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

  • 302


إن المعركة بين الحق والباطل قد قدّر الله أن تمرّ بمراحل تضعف فيها قوة الحق الظاهرة، وينتفش فيها الباطل، فيما يبدو للناس، حتى يترك كثير من الناس طريق الحق إشفاقًا من الاستضعاف والقلة والغربة؛ فتأتي المبشرات من الكتاب والسنة؛ لتعالج مرض اليأس، وتجدد أنوار الرجاء في قلوب المؤمنين، حتى يستمر في مسيرة الحق، فالمستقبل لهذا الدين أمر يقيني في الكتاب والسنة، ثم هو كذلك في قلوب المؤمنين.

في وسط أمواج الفتن تتبدد ظلمات اليأس والقنوط بهذه المبشرات، فهي عقيدة راسخة لازمة لكل مؤمن كجزء من إيمانه بالله وبكتابه، وكجزء من إيمانه برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أخبر بهذه الحقيقة، فلا بد أن نؤمن بها، فهي وعد الله لن يُخلف -لا شك فيه- تكرر في كتاب الله؛ ليستقر في نفس كل مؤمن حتى يوقن بآيات الله؛ فيكون ذلك من أسباب النصر وأسباب الإمامة في الدين، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

فمن أيقن بآيات الله وصبر على ما أصابه في سبيل الله؛ كان إمامًا في الدين، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم –ورسله قبل ذلك- بتبشير المؤمنين قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك لأن العقبات إذا كثرت ربما ظن كثير من الناس أنها سوف تعرقل المسيرة أو سوف تمنع الوصول، وليس الأمر كذلك بل إنما قدر الله -عزوجل- العقبات من أجل قلوب المؤمنين، من أجل أن يستخرج أنواع العبودية التي يحبها –عزوجل- من عباده المؤمنين، وذلك أنه تعبّدهم بالسراء والضراء، وما يحبون وما يكرهون، تعبّدهم بأن يكونوا مطيعين له ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأحوال، من أجل عبوديتهم له أضل أقوامًا حتى كفروا به ليجاهدهم أهل الإيمان.

 وقدّر الله أن يسلط من أراد من هؤلاء الكفرة على أناس منهم، فقتلوهم، وآذوهم، وأخرجوهم من ديارهم، وصدوهم عن سبيله؛ ليستخرج من عبودية المؤمنين ما يحب من التضحية في سبيل الدين والبذل في سبيل الله والهجرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والشكر والرضا والتوكل والتفويض وحسن الظن بالله في فترات الشدة وأوقات الظلام، وليوقن أهل الإيمان كذلك أن الله –عزوجل- هو الذي بيده الملك، وهو الذي بيده الأمرُ كله، وإليه يُرجع الأمر كله، وأنه الذي يداول الأيام بين الناس، وأنه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، يحب أن يوجد من يطيعه في وسط الظلام، ويسبق إليه، يحب أن يوجد من يعبده والناس معرضون، يحب أن يوجد من يطيعه والناس عاصون، يحب أن يوجد من يؤذى في سبيله، ومن يُخاف في سبيله، قال صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، ولَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ" فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من فضل الله عليه، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}  فلولا وجود ما في أول الآية ما كان الشكر في آخرها على الوجه الذي يحبه سبحانه.

 فمن كان مستضعفًا ومن كان قليلًا ومن كان يخاف أن يتخطفه الناس، يدرك قيمة الإيواء، وقيمة التأييد بنصر الله وقيمة الرزق من الطيبات، قدر الله كل هذه العقبات لا لأجل أن تقف في طريق المسيرة، بل لأجل أن تستخرج أنواع العبودية، أما نهاية المطاف والصراع فهذه المعركة بين الإسلام والكفر عبر التاريخ نهاية محتومة مقطوع بها، وعد الله بذلك وكتبها في اللوح المحفوظ الذي لا محو فيه ولا إثبات، وكتبها في الكتب المنزلة على رسله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}، وقوله تعالى "في الزبور" أي في جنس الكتب المنزلة المزبورة أي المكتوبة، التي أنزلها الله وليس فقط زبور داوود -عليه السلام- بل في كل الكتب، كما قال تعالى: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}، يقال زُبِرَ الكتاب إذا كتب، والله كتب في الزبور أي في الكتب التي أنزلها من بعد الذكر أي من بعد الذكر الأول وهو اللوح المحفوظ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكتب في الذكر كل شيء"، هذه كتابة قدرية كونية لا يمكن أن تخلف، وهي كتابة شرعية كذلك؛ لأن الله شرعَ وأمرَ أهل الإسلام وأوجب عليهم أن يسعوا إلى إعلاء كلمة الله في الأرض، ولذلك كان في كتاب الله المُنزل هذا الأمر وهذا الوعد.

واختص الله أمة الإسلام لأن وظيفتها ليست مقتصرة على أرض دون أرض، بل المستقبل لهذا الدين في أرجاء الأرض كلها؛ لذلك كتب الله: أن الأرض -أي بأسرها- {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}، فالشرط أن يكونوا عابدين لله -سبحانه وتعالى- وأن يكونوا من عباده الصالحين، وقال عزوجل: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

حتى نكون من أهل هذا الوعد فلا بد أن نكون ممن يعبد الله، لا نشرك به شيئًا، نحقق التوحيد ونؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ونعمل الصالحات؛ حتى نكون خطوة على الطريق، ولبنات في البناء، والله المستعان..