الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (8)

  • 149

قصة بناء الكعبة (6)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فبعد أن ذكر الله -تعالى- أنه جعل خليله إبراهيم -عليه السلام- إمامًا للناس -ومَن كان مِن ذريته عادلًا غير ظالم-؛ ذكر -سبحانه وتعالى- قصة بناء الكعبة المُشَرَّفة قِبلة إمام البشرية كافة، وأمته إلى آخر الزمان، وخير الخليقة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وهذا تمهيدًا لنسخ القبلة مِن بيت المقدس إلى استقبال الكعبة؛ فقال -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال العوفي عن ابن عباس: قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: لا يقضون منه وطرًا؛ يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: يثوبون. رواهما ابن جرير. وروى ابن أبي حاتم  عن ابن عباس، في قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.

قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير في رواية وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك.

وروى ابن جرير عن عبدة بن أبي لبابة، في قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا.

وعن ابن زيد: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي:

جعل البيت مثابًا لهم ليس                مـنه الدهر يقضون الوطر

وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) أي: مجمعًا.

(وَأَمْنًا) قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.

وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) يقول: أمنًا مِن العدو، وأن يحمل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتخطف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.

وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: مَن دخله كان آمنا.

ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله -تعالى- يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا مِن كونه مثابة للناس؛ أي: جعله محلًّا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا ولو ترددت إليه كل عام؛ استجابة من الله -تعالى- لدعاء خليله إبراهيم -عليه السلام- في قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إلى أن قال: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم:37-40).

ويصفه -تعالى- بأنه جعله أمنًا؛ مَن دخله أَمِن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يَلْقَى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله -تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة:97)، أي: يرفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولًا، وهو خليل الرحمن -"قلتُ: بل الشرف؛ لأن الله شَرَّفه وحرمه قبل أن يخلق الناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) (متفق عليه)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (رواه البخاري)"- كما قال -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) (الحج:26)، وقال -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97).

وفي هذه الآية الكريمة نبَّه -تعالى- على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)، وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام: ما هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.

وروى أيضًا عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكره هاهنا -أي: في هذه السورة-، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد -يعني الحجر الذي عليه القبة الصغيرة الصفراء-، ثم قال: و(مَقَام إِبْرَاهِيمَ) يُعَدُّ كَثِير، (مَقَام إِبْرَاهِيمَ) الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة (الظهر والعصر)، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا، ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله. قلتُ: أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.

وروى سفيان الثوري عن سعيد بن جبير: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: الحجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه.

وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلتْ رأسه. حكاه القرطبي وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس -(قلتُ: والراجح الأول؛ أنه الحجر الذي كان يبني عليه إبراهيم الكعبة المشرفة)-.

وروى ابن أبي حاتم عن جابر يحدِّث عن حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله -عز وجل-: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) -(قلتُ: هذا لا يثبت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت في الصحيح أنه صَلَّى الركعتين مباشرة عقب طوافه)-.

وروى عثمان بن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) -(قلتُ: والذي يظهر أن هذا كان سابقًا على حجة الوداع)-.

وروى ابن مردويه عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مرَّ بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله، أليس نقوم بمقام خليل ربنا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

وروى ابن مردويه عن جابر قال: لما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)؟ قال: نعم. قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك (وَاتَّخِذُوا) قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية، وهو غريب.

وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه.

وقال البخاري: باب قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، مثابة: يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب. وقال: وبلغني معاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلتُ: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءَه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ) الآية (التحريم:5)" (انتهى من تفسير ابن كثير).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.